ماذا بعد تدمير المساجد والكنائس بغزة
الشيخ رائد صلاح
لمن لا يعلم لقد كان بغزة قبل تاريخ 2023/10/7، إثنا عشر ألف مسجد، وكان من بين هذا العدد مساجد تاريخية مضى على بداية بنائها مئات السنوات، وإلى جانب ذلك كان بغزة بضع كنائس، ثم بعد أن تفاقمت الكارثة الإنسانية على غزة وقع الدمار الكُلي على (609 مساجد) مما يعني أنه لم يبق منها حجر على حجر وتحولت إلى رجم حجارة وكثبان تراب تتصاعد منها النار والدُخان، وما عاد فيه مئذنة ولا محراب ولا منبر، وأما المصاحف التي كانت تضم هذه المساجد والتي كانت بالآلاف فقد دُفِنت تحت أنقاض هذه المساجد، وكذلك أصبح مصير آلاف الكتب الدينية في علم الفقه والتفسير والأصول والمعاملات والأحوال الشخصية والمواريث والسيرة النبوية وحياة الصحابة والتاريخ الإسلامي التليد التي كانت تُشكل مكاتب عامة في هذه المساجد حيث تمزقت هذه الكتب، أو احترقت أو دُفِنت في مقابر جماعية لهذه المصاحف ولهذه الكتب تحت أنقاض هذه المساجد التي دمرّها قصف الطائرات أو قذائف المدافع أو تفجيرها عن سبق إصرار، ومما زاد من مأساة المساجد بغزة أن الدمار الجزئي وقع على (211 مسجد) أخرى، وهذا يعني أن (820 مسجدًا) بغزة وقع عليها دمار كُلي أو جزئي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إلى جانب تدمير ثلاثة كنائس تدميرًا كليًا، وأظن أن الجميع منا شاهد الفلم الوثائقي الذي بثته قناة الجزيرة قبل أكثر من أسبوعين والذي كان يوثق لحظات اقتحام بعض عناصر الاحتلال الإسرائيلي لبعض المساجد بغزة، حيث رافق هذه الاقتحامات إحراق هذه العناصر الاحتلالية الإسرائيلية للمصاحف التي كانت في تلك المساجد، وهكذا أصبح مئات الآلاف من أهل غزة مُشردين مطرودين عن بيوتهم المُدمرة، ومطرودين عن مساجدهم المُهدمة، وهكذا أصبح هؤلاء المشردون محرومين من بيت يأوون إليه ومن مسجد يصلون فيه!!
وهكذا باتوا مضطرين أن يعيشوا مع أزواجهم وأبنائهم وبناتهم في خيام التشريد، وباتوا مضطرين لأداء صلواتهم منذ الفجر حتى صلاة العشاء مرورًا بصلوات الظهر والعصر والمغرب قرب مساجدهم المُهدمة أو قرب ما ظل منها من بقايا جدران قد تسقط في كل لحظة، وهكذا ما عادوا يُصلون في مساجد ذات بناء مرصوص مُتكامل يقيهم برد الشتاء وحر الصيف، وما عادوا يُصلون في مساجد ذات مُكيفات ككل مساجد الأرض، وما عادوا يُصلون في مساجد ذات شبكة مُكبرات صوت تعين خطيب الجمعة على إسماع صوته لكل حضور المُصلين للجُمعة، وتُعين الإمام على إسماع قراءته لكل من يقفون خلفه في صفوف الصلاة، وما عادوا يُصلون في مساجد ذات شبكة كهربائية تضيء لهم ليلهم في المساجد، وتضيء لهم مآذنهم ومنابرهم ومحاريبهم، وما عادوا يستطيعون أن يشربوا ماءً باردًا من هذه المساجد بعد أن حلّ عليها الخراب، ولا أن يضعوا تمرًا ولا قهوة ولا حلوى عند أبواب مساجدهم، ولا أن يُقيموا فيها موائد صيام رمضانية أو ما بعد رمضان وقبله.
في مقابل سائر مساجد الأرض المُزخرفة المُدلل زوارها، فهي هذه المساجد المُزخرفة المُرفه أهلها في شتى بقاع المسلمين في كل الأرض التي تضم الماء والكهرباء والمُكيفات والسجاد الفاخر والأرائك والزينة ومجامر العطور والتمور على أنواعها والحلوى على أصنافها، والتي لا يمر عليها أسبوع إلا وتُقام فيها موائد صيام، أو موائد عقد قران، أو موائد عقائق، إلا من مساجد غزة التي أضحت أطلال مساجد ليس أكثر، حيث أضحت هذه الأطلال عنوان بؤساء أهل الأرض، ومُلتقى مُعذبي الإنسانية ومجمع مُشردي الطفولة العالمية ومحطة الوداع الأخير لضحايا الكارثة الإنسانية من رُضع وأطفال ورجال ونساء بغزة.
ففي محطة هذا الوداع الأخير يُصلي عليهم من بقي حيًا من غزة صلاة الجنازة وبعد توديعهم على عجل حذر القتل يقوم من صلىّ عليهم بدفنهم فرادى أو في مقابر جماعية وفق عدد الضحايا في كل صلاة جنازة وكأن هذه المساجد بغزة أضحت للموتى لا للأحياء، وللأشباح لا للأرواح، وهنا على أعتاب هذه المساجد المُدمرة بغزة بان عوار الإنسانية على المكشوف!!
فهي الإنسانية اليوم التي ما عاد فيها من حقيقة الإنسانية إلا اسمها!!، وهي الإنسانية اليوم المقهورة الذليلة التي فرّطت في الأرض وتركتها مشاعًا للسياسة الأمريكية ولمن يدور في فلكها حتى ملأتها هذه السياسة الفاجرة الأمريكية جورًا وظلمًا!!، وهي الإنسانية اليوم التي أعلنت عن فك الارتباط مع غزة، وكأن غزة ما كانت في يوم من الأيام من أهل الأرض ولا من بني البشر، ولا من رعايا هذه الإنسانية المارقة اليوم!!، وهي الإنسانية البلهاء اليوم التي باتت تنظر إلى انهيار هيئة الأمم المتحدة وانهيار كل ما تفرع عنها من مجالس ومنظمات ولجان دولية بصمت مُخجل!!، وهي الإنسانية العاصية اليوم التي ما تركت ذنبًا إلا ارتكبته وجاهرت بارتكابه، لا بل فاخرت بارتكابه وفلسفت حقها في ارتكابه وجواز ارتكابه، بداية من إقبال هذه الإنسانية المشوهة اليوم على الربا في كل شؤون حياتها مرورًا بشرعنتها للشذوذ الجنسي بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء، ثم رضوخها المُهين اليوم للرأسمالية المتوحشة وقيم هذه الرأسمالية المُنفلتة، واستسلامها المشين للقوى الإمبريالية الاستعمارية التي باتت تحتل كل الأرض وتدوس على رقبة هذه الإنسانية التعيسة بحذاء غرورها وجبروتها وعلوّها وإفسادها!!
ولذلك لا أبالغ إذا قلت: إن الإنسانية المُحتضرة اليوم بحاجة أن تحمد الله تعالى في كل لحظة لأن الله تعالى لا يزال يرحمها ولم ينزل عليها عذابًا مُهلكًا كالعذاب الذي أنزله على قوم نوح أو قاوم عاد أو قوم ثمود أو قوم فرعون أو قوم النمرود!!
ولذلك أنا شخصيًا لا أستبعد أن يقع عذاب من الله تعالى في كل لحظة على الإنسانية بعامة، وعلى مردة عّرابي السياسة الأمريكية والسياسة الأوروبية بخاصة الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، بهدف تطهير كل الأرض من موبقات هذه الإنسانية بعامة ومن السياسة الأمريكية والأوروبية بخاصة، ثم تهيئة الظروف لميلاد جديد في مسيرة هذه الإنسانية، وميلاد قيادة عالمية جديدة، تأخذ بيد هذه الإنسانية الخائبة إلى شاطئ الأمن والأمان وتحررها من سطوة السياسة الأمريكية الدجالة ومن سائر مرتزقتها!!
لذلك لا أستبعد أن يضرب نيزك الأرض كما يتوقع علماء الفلك في قادمات الأيام، ولا أستبعد أن يتبع ذلك كما يتوقع هؤلاء العلماء اختلال مناخي في الأرض وانتشار دُخان كثيف يُحيط غلاف الأرض ويحجب عنها الشمس برهة من الزمن، مما يعني هلاك أعداد غفيرة من هذه الإنسانية، إلى جانت انتشار الجوع والأوبئة على صعيد عالمي!!، مما يعني تهيئة الظروف لميلاد مرحلة جديدة في عمر هذه الإنسانية ستُتيح الفرصة لميلاد قيادة راشدة وعادلة عالمية ترد الاعتبار لهذه الإنسانية قبل أن تنقرض بالمطلق، لأن الاعتداء على المسجد بيت الله بغزة والاعتداء على القرآن كتاب الله بغزة هو بمثابة إعلان حرب على الله تعالى، ويوم أن يعجز زوار بيت الله عن الحفاظ على بيت الله كما الحال بغزة، ويوم أن يعجز أهل القرآن كتاب الله عن الحفاظ على كتاب الله كما الحال بغزة، فهذا يعني أن فعلًا ربانيًا مباشرًا قد يقع على الأرض، وما طوفان نوح وطاغية ثمود وريح عاد الصرصر العاتية وسجيل قوم لوط وغرق فرعون وعاقبة النمرود عنا ببعيدة، وهو الله العظيم الذي أمره بين الكاف والنون، وهو وعد الله الحق الذي قال عنه القرآن الكريم في أكثر من موضع: {إن وعد الله حق}، وهو ميزان الله الخالد: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}.. {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.