ما أعجلكم إلى (جورج وسوف)
الشيخ رائد صلاح
هرولتم بآلافكم وراء (جورج وسوف) وشددتم الرّحال إلى (جرش)، كي تحظوا برؤيته وسماع صوته، مع أنكم تعلمون أنه هو المطرب الذي أدمن على الغفلة حتى أنهكت جسده، وما عاد يستطيع السير سويًا على قدميه، وبات يخرج على مسرح الغناء خائر العزم ولا يستطيع الوقوف، ومضطرًا أن يُغني وهو مُمدد على كرسي عجزه، ومع ذلك تدافعتم عند جسر الشيخ حسين الأردني حتى لا تفوتكم فرصة التبرك “بجورج وسوف”، وتكحيل عيونكم بجسده شبه المُقعد وعيونه الغائرة، لدرجة أنكم تعاركتم في قاعات انتظار ذاك الجسر، وضرب بعضكم بعضًا، وشتم بعضكم بعضًا، ولعن بعضكم بعضًا!!
لماذا كل ذلك؟!، ولماذا أنفقتم الأموال الطائلة على حساب جياع غزة وعطشاها؟!، ولماذا اضطر بعضكم أن يغرق في حمأة السوق السوداء ويتجرأ على الربا الفاحش على حساب لقمة طعام زوجه وأولاده وبناته ووالده المُقعد وأمه العجوز؟!، ولماذا خلعتم لباس الحياء ورضيتم لأنفسكم -ذكورًا وإناثًا- أن تتمايلوا طربًا ولهوا على أنغام وغناء فتى عروبتكم “جورج وسوف”، في الوقت الذي كانت فيه كل فضائية حُرة في الدنيا تتحدث نقلًا عن وزارة الصحة بغزة أن الكارثة الإنسانية بغزة قد أودت حتى يوم الخميس الموافق 2024/8/15 بحياة أربعين ألفًا من الأطفال والنساء والمُشردين.
ومع ذلك جعلتم أصابعكم في آذانكم واستغشيتم ثيابكم وأقفلتم على قلوبكم حتى لا يزعجكم هذا الرقم الفاجع، وحتى لا يُعكر صفو مزاجكم، ولا يُفسد ليل أفراحكم، فتحجرت قلوبكم، وما عادت تسمع إلا مكاء وتصدية فتى عروبتكم وسجع كهانته ومواويل حنجرته ولقلقة لسانه، في الوقت الذي لا يهدأ فيه أزيز الرصاص ولا قصف الطائرات ولا لعلعة المدافع بغزة!!
فماذا دهاكم حتى فرطتم بأبجديات ثوابتكم الإسلامية العروبية الفلسطينية التي تفرض عليكم أن تتألموا لألم غزة وإن لم تعيشوا ألمها، وأن تتوجعوا لجوعها وإن لم تجوعوا كجوعها، وأن تأنّوا لعطشها وإن لم يقتلكم ظمأ عطش كعطشها، وأن تفيضوا عيونكم بالدموع حزنًا وحسرةً على من دفنوا تحت أنقاضها من خُدّج ورضّع وأطفال وطفلات وأيتام ويتيمات على اعتبار أنهم كأبناء لكم من دائرتكم الإسلامية العروبية الفلسطينية، وإلا فعلى اعتبار أنهم أبناء لكم من دائرة إنسانيتكم العالمية، وإلا فعلى اعتبار أنهم أبناء لكم من دائرة نخوتكم النابضة، وإلا إن ألغيتم كل هذه الدوائر من أجل عيون فتى عروبتكم (وسوف)، فقولوا لي من أنتم؟!، وما ظل فيكم من انتمائكم؟!، وما ظل لكم من قيمكم؟!، وما ظل يربطكم مع هويتكم وما الذي ظل يشدكم إلى جذوركم؟!
فيا لسوء ما وقعتم فيه عندما اخترتم اللهو والسهو واللغو على حساب رابطة الجسد الواحد الذي من المفروض أن تكونوا عضوًا فيه، وأن تتداعوا له بالسهر والحُمى إذا اشتكى عضو منه وإن كان العضو المُشتكي هو حواجب هذا الجسد أو شعره أو رموشه أو أظافره، فكيف إذا كان هذا العضو المُشتكي هو قلبه أو رأسه أو صدره أو عقله!!، ولكنكم لم تكونوا كذلك، بل رضيتم لأنفسكم أن تكونوا العضو العاق من هذا الجسد لهذا الجسد، فيا لسوء تفكيركم ويا لسوء تقديركم، ويا لسوء قراركم ويا لسوء أعذاركم، ويا لسوء خسرانكم في هذه التجارة الغدارة الرجعية الكاسدة؟!، وإلا هل رأيتم عينًا تتخلى عن جسدها؟!، أم هل رأيتم يدًا تنفصل طواعية عن جسمها؟! أم هل رأيتم قدمًا تستقل بالسير لوحدها دون سائر أعضاء بدنها!!
ولكنكم أنتم رضيتم طواعية أن تفكوا ارتباطكم معنا ومع حاضرنا الممتد ما بين الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية (عكا وحيفا ويافا واللد والرملة)، وأن تفكوا ارتباطكم مع فاجعة غزة وآلام الضفة وأوجاع القدس والمسجد الأقصى المباركين!!، وكأنكم تقولون لنا أنكم شيء آخر منقطع عنا!!، وكأننا في نظركم غرباء عنكم ولا تجمعنا ثوابت ولا قيم ولا لغة ولا تاريخ ولا حاضر ولا مستقبل!!
فإن كنتم كذلك فيا حسرة عليكم، وإن لم تكونوا كذلك فأسأل الله تعالى أن يكون ما صدر عنكم هو كبوة جواد، ولكل جواد كبوة، ثم يقف الجواد ليُسابق الريح، أو أن يكون ما صدر عنكم عثرة سائر على الدرب، ولكل سائر عثرة، ثم ينهض السائر مُنتصب القامة ومرفوع الهامة، وإلا صارحوني القول: هل غنّى لكم فتى عروبتكم “وسوف”، عن رضيع تحت الأنقاض بغزة؟!، أم غنّى لكم عن طفل يبكي جوعًا وعطشًا ويتمًا بغزة؟!، أم غنّى لكم عن أم ثاكل تنوح فوق قبر ابنها بغزة؟!، أم غنّى لكم عن ولولة نساء مُشردات هائمات على وجوههن بغزة؟!، أم غنّى لكم عن مرضى أنهكهم المرض ولا دواء لهم بغزة؟!، أم غنّى لكم عن مساجد مُدمّرة وكنائس مُهدّمة ومدارس مقصوفة ومنازل صارت أكوام حجارة بغزة؟!
ثم صارحوني القول: لماذا صفقتم تصفيقًا حارًا حتى احمّرت أكف أيديكم في حضرة فتى عروبتكم “وسوف”؟!، هل لأنه صاح فيكم لتُرفع الكارثة الإنسانية عن غزة؟!، أم لأنه صرخ من قحف قلبه: ليتوقف حصار البشر والشجر والطير والحشر بغزة؟!، أم لأنه صاح صيحة مهموم مُرددًا بغضب: لا لخطر الإبادة الجماعية بغزة!!، ولا لارتكاب جرائم ضد الإنسانية بغزة؟!، ومع ذلك كم لا زلنا نتمنى أن نراكم مُهرولين إلى مواقع الاعتصامات التي أقامتها لجنة المتابعة العليا في العشرات من بلداتنا خلال الأشهر العشر الأخيرة الماضية حيث كنا نُردد فيها: أوقفوا الحرب بغزة، وكم لا زلنا نتمنى أن نراكم زاحفين بآلافكم مُلتحمين مع عشرات المظاهرات التي أقامتها لجنة المتابعة العليا على أبواب بيوتكم بكفركنا ومجد الكروم ودير حنا وأم الفحم وسخنين وعرابة… والقائمة طويلة حيث كنا نؤكد فيها حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني وإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس المباركة المحتلة، وكم لا زلنا نتمنى أن تتسابقوا مندفعين في مسيرة العودة، وفي مسيرة يوم الأرض، وفي مسيرة المطالبة بالحرية لأسرى الحرية، وفي مسيرة شهداء هبة القدس والأقصى وفي مسيرة ومهرجان بلدة العراقيب وفي أيام شد الرحال إلى القدس والمسجد الأقصى المباركين، ولتعلموا أننا لن نتخلى عنكم حتى لو تخليتم عنا، فأنتم منا ونحن منكم، وأنتم أفراد من أسرتنا الواسعة الواحدة وبيتنا الكبير الواحد وصمودنا الواحد وأملنا الواحد وصبرنا الواحد وطموحنا الواحد وتفاؤلنا الواحد، وأنتم أغلى ما نملك، لأنكم أبناؤنا والأبناء أغلى ما نملك، فعودوا إلينا راشدين لنغني سويًا لحق العودة ولكرامة القدس والمسجد الأقصى المباركين وليوم الفرح الكبير بقيام دولة فلسطين المستقلة.
وأمّا “جورج وسوف”، فلا نملك إلا أن ندعو له بالهداية والالتحام مع آلام وآمال أمتنا الإسلامية وعالمنا العربي وشعبنا الفلسطيني، وإلا فنحن لسنا ضد الغناء، بل نحن مع الغناء الملتزم الذي ينهض بنا، ويواسي جراحنا ويكفكف دموع أراملنا ويرسم الابتسامة على شفاه أطفالنا ويُحررنا من اليأس ويكسر عن إرادتنا طوق الإحباط ويُسقينا ماء الهمّة ويُغذينا من زاد الثبات ويفك أسرنا من قيود الشهوة العمياء ويُجري في شراييننا دماء الكرامة ويهتف فينا: قوموا قيامًا وصفوا الأقدام في وجه القهر والظلم والاستبداد وتعاونوا على النهضة والرفعة والسمو، ولا تعاونوا على التطبيع والترويع والتقريع، واصبروا وصابروا وثابروا ففجرنا قادم وصبحه قريب وإن طال ليلنا.