أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (211) لماذا هي حرب دينيّة؟!

حامد اغبارية

رغم محاولات صبغ طبيعة الصّراع على فلسطين بأنه صراع سياسيّ تارة وجغرافيّ تارة أخرى بين طرفين أو كيانين أو شعبين أو أمّتين، إلا أنّ حقيقة هذا الصراع أنه صراع ديني بامتياز، وإنها حرب دينية. وتقوم على ذلك أدلة قاطعة لا يمكن دحضها أو التشكيك بها، على الرغم من الجهود المتواصلة طوال أكثر من قرن لإخفاء هذه الحقيقة وصرف الأنظار عنها.

لقد نجحت ماكينة الدعاية الغربية والصهيونية في السيطرة على مسرح الصراع بفرض مصطلحات لا علاقة لها بحقيقة الصراع، ووجدت في الفضاء الفلسطيني والعربي والإسلامي مِن الدّمى التي صنعها الاستعمار الصليبي مَن يتلقفون هذه المصطلحات ويرددونها حتى باتت وكأنها هي الحقيقة، وحتى بتنا نسمعهم يحذّروننا من تحويل الصراع إلى صراع ديني “لأنّ هذا ليس في صالح أحد”!!

من المهمّ أن نفهم أن المشروع الصهيوني (العلماني) خرج من رحم الحملات الصليبية. فهو جزء منها، بل هو الفصل الأخير الذي يختم هذه الحملات المستمرة حتى هذه اللحظة، وإن صُبغت في العصر الحديث بأوصاف ومسميات مختلفة. فحقيقتها واحدة لم تتغير.

هناك آلاف، وربما عشرات آلاف المؤلفات الإسرائيلية والأجنبية حول المشروع الصهيوني وعلاقته بالغرب الصليبي، الذي شنّ على الشرق الإسلامي حملاته التي خرجت مطلع القرن الحادي عشر الميلادي تحت راية الصليب، بدفع وتحريض من بابوات الفاتيكان، فكانت بطبيعتها حملات ذات خلفية دينية خالصة، وكانت أهدافها دينية كذلك؛ ذلك على الرغم مما تقرأه في مؤلفات ودراسات كثيرة من أن الغرب الصليبي استغل الدين لتحقيق مآرب استعمارية ذات بعد سياسي واقتصادي.

إن الغرب لم يستغل الدين لتحقيق مآرب استعمارية سياسية واقتصادية، وإنما استغل العاطفة الدينية لدى البسطاء لإقناعهم بالمشاركة في حروب دينية خالصة. وهناك فرق بين المسألتين.

ثم لما تبلورت الحركة الصهيونية بشكلها النهائي في أواخر القرن التاسع عشر، كان واضحا أن اختيار التسمية لم يأت عبثا، بل جاء يحمل طابعا دينيا خالصا. فتسمية صهيون مأخوذة من التوراة، وتحديدا من سفر إشعياء، فلا يغرّنك أن يقولوا إن الحركة الصهيونية حركة علمانية وإن مؤسسيها وقادتها ملحدون، فهذا من التغرير المبرمج الذي سرعان ما تنكشف خبيئته عند أول اختبار في الصراع. ولعله من المهم أن نتنبّه إلى أنّ المؤسسة الإسرائيلية تحرص على دفن كبار قادتها حتى “الملحدين” منهم، في مقبرة “هار تسيون” أو ما يعرف باسم جبل صهيون. وهذا الاختيار دينيّ بامتياز كذلك.

ثم إن عليك أن تعرف أن جذور الفكرة الصهيونية خرجت من بريطانيا. ولذلك ليس عبثا أن احتلال فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى -بتفويض رسمي من عصبة الأمم- كان من “اختصاص” بريطانيا. لكنّ الأهم من هذا أن البروتستانت البريطانيين هم الذين تبنّوا الفكرة الصهيونية واحتضنوها وروّجوا لها بدءا من القرن السابع عشر. والبروتستانت (الأنجليكانيين) يؤمنون بعقيدة “الاسترجاع” التي تتحدث عن ضرورة “عودة اليهود إلى فلسطين” كشرط أساس لعودة المسيح في آخر الزمان. غير أن الجهات العلمانية ذات المطامع الاستعمارية في بريطانيا تلقفت الفكرة وعملت على علمنتها بمشاركة مفكرين علمانيين من الانجليز. وهذا هو سبب صبغ المشروع الصهيوني “نظريا” بأنه ليس ذا طابع ديني، بغرض صرف الأنظار عن حقيقته.

ثم إن المشروع الصهيوني وقادته ومفكريه تبنّوْا مصطلح “أرض الميعاد”، حيث أنهم يعتقدون أن الربّ قد وعد “شعبه المختار” بهذه الأرض دون غيرهم. ولعلك تدرك الآن الرابط الوثيق بين “أرض الميعاد” وبين “شعب الله المختار”، وكلاهما يحمل بُعدا دينيا خالصا. وإنك تراهم يمارسون سياسة الدفاع عن وجودهم في فلسطين من خلال هذين المصطلحين، اللذين يترددان عل ألسنتهم صباح مساء لتأكيد البعد الديني.

ثم إن رموز الدولة العبرية من نجمة داود إلى الشمعدان السباعي إلى النشيد الوطني، كلها تحمل بُعدا دينيا. فنجمة داود السداسية التي تتوسط العلم الإسرائيلي ترمز إلى تُرس نبي الله داود عليه السلام، أما اللونان الأزرق والأبيض فقد جاء اختيارهما كممثلين لشال الصلاة اليهودية ذي اللونين الأزرق والأبيض، كما جاء في سفر العدد (الإصحاح 15): “وكلم الرب موسى قائلا: كلِّم بني إسرائيل وقل لهم أن يصنعوا لهم أهدابا في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من إسمانجوني”، والاسمانجوني هو اللون السماوي. أما شكل رسم الخطين الأزرقين فيرمزان إلى حلم السيطرة على الأرض الواقعة بين نهري النيل والفرات. وهذا ليس عبثا. فنبي الله إبراهيم عليه السلام بعث في العراق، حيث الفرات، وفلسطين مهاجرُه. ولما أنهم يعتبرون أنه عليه الصلاة السلام لهم وحدهم دون خلق الله، فإن العراق من حقهم كما أن مهاجره من حقهم كذلك. ولما أن مصر كانت الأرض التي بعث فيها موسى عليه السلام لإخراجهم منها فإن أطماعهم في السيطرة على النيل وعلى أرض النيل لا تخفى على أحد. بل إن الأطماع تتجاوز ذلك بكثير. ولقد سمعت أحد كبار حاخاماتهم يقول إن الحلم الصهيوني يسعى إلى السيطرة على مكة والمدينة، وأنه لا يمكن اعتبار أن الفكرة الصهيونية قد نجحت تماما حتى تتحقق السيطرة على المدينتين. (والتصريح موجود بالصوت والصورة على يوتيوب).

وأما النشيد الوطني الذي يسمى “هتكفا” (الأمل) فله نسختان قديمة وجديدة. وكلا النسختين يتضمنان ذات المعاني. أما النسخة الأولى فتقول: أملنا لم يضع بعد، الأمل الأزلي، أن نعود إلى بلاد آبائنا، إلى المدينة التي نزل عليها داود.

والمدينة التي نزل بها داود- كما في التوراة (سفر إشعيا: 29/1) هي القدس (القرية التي نزل بها داود). وقد صرّح النص النهائي المعتمد اليوم باسم القدس وليس تلميحا، رغم أن لفظ “القدس /أورشليم) لم يرد إطلاقا في النص الأصلي للتوراة في اسفارها الخمسة الرئيسة). والنشيد يعتبر أن الأرض أرض الآباء والأجداد. ولكن أية أرض؟ هل هي فلسطين التاريخية بحدودها المعروفة اليوم؟ لسان الحال والمقال يقول غير ذلك. فالحلم أكبر من هذه البقعة الجغرافية الصغيرة. فمصر والعراق وجزيرة العرب وأرض الشام في نظرهم هي كلها أرض الآباء والأجداد. ولعل عنوان النشيد الوطني ومضمونه يلمح إلى هذا. فالنشيد ما زال إلى اليوم يتحدث عن الأمل ويحمل اسم الأمل في العودة إلى أرض الآباء والأجداد. ولو أن الأرض المقصودة هي فلسطين التاريخية فقط لانتهى الأمر منذ 1948 لحظة الإعلان عن قيام الدولة الإسرائيلية، ولكان من الصواب تغيير النشيد بعنوان يحمل معنى تحقيق الأمل. ولما أنه ما زال يحمل “الأمل” اسما ومضمونا فإن الحلم النهائي لم يتحقق بعد.

ثم فكر قليلا باختيارهم اسم “‘إسرائيل” لدولتهم … فهذا وحده يكفي لبيان الطابع الديني للمشروع.

ثم إن الخطاب الإسرائيلي فيما يتعلق بمدينة القدس يحمل طابعا دينيا لا ريب فيه. فهي بالنسبة لهم قدس الأقداس (قودش هقدشيم). وفيها كان هيكلهم الأول والثاني، كما يزعمون، وفيها يريدون بناء هيكلهم الثالث على أنقاض المسجد الأقصى المبارك. فهل يحمل الهيكل بعدا سياسيا او اقتصاديا أو اجتماعيا مثلا؟؟؟ وهل هناك حاجة لشرح البُعد الدّيني لهذه المسألة شديدة الوضوح والخطورة؟

وإن سلوك الاحتلال الإسرائيلي في القدس والأقصى، بمن في ذلك سوائب المستوطنين وغُلاة المتطرفين وممارساتهم في القدس والأقصى فإنها تحمل أبعادا دينية تسعى إلى فرض السيادة الكاملة لتحقيق الخطوة الأهم في المشروع، وهي بناء الهيكل الثالث لتتحقق نبوءات الكذب في إنشاء مملكة إسرائيل الكبرى، قبيل عودة المسيح (وهي نبوءة يلتقي عليها الطرفان الصهيوني والصليبي)، لأنه في تلك العقيدة لا عودة للمسيح إلا بقيام المملكة التي سيحكم منها العالم، ولن يتحقق قيام المملكة إلا ببناء الهيكل.

ولقد عكفت المؤسسات الإسرائيلية على تمهيد الأرض لإيهام الرائي بأن الجذور موجودة هنا، فعملت على إجراء الحفريات الأثرية التي أرادوا من خلالها إثبات وجود سابق يمنحهم الحق في الوجود الحالي. ولعلك قد قرأت أو سمعت عن “اكتشافات” أثرية ذات بُعد ديني يعود إلى أزمنة غابرة، سرعان ما تبين تزويرها، ورغم ذلك يصرون عليها. ولعلنا نعلم جميعا كيف أن الكثير من المقامات والمواقع والقبور الإسلامية وغيرها قد سيطروا عليها ونسبوها إليهم وزعموا أنها كذلك منذ عصور تعود إلى ثلاثة آلاف سنة!! ومن المقامات المشهورة التي سعوا إلى السطو عليها مقام النبي موسى ومقام النبي صالح ومقام النبي روبين ومقام النبي صموئيل وقبر راحيل وقبر يوسف والحرم الإبراهيمي وغيرها كثير.

أما تاريخيا فإن أصل هذه المقامات من زمن الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي عمد إلى إنشائها بهدف تجميع المسلمين في مواسم معينة حتى يتصدى للزحف الصليبي على بلاد المسلمين، وتبعه في ذلك المماليك ولنفس الأسباب. هذا مع العلم أن المسح الأثري والتنقيبات لم تبث على الإطلاق صلة هذه المقامات بأسفار التوراة، كما لم يثبت تاريخيا وأثريا أن أيًّا من أنبياء بني إسرائيل الذين وردت أسماؤهم في كتبهم المقدسة هو صاحب المقام العينيّ، سوى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام في المسجد الإبراهيم في الخليل.

بناء على ذلك فإن الحرب على الهوية وعلى الرواية هي جزء من تلك الحرب الدينية التي تميز الصراع على فلسطين.

إننا نعيش في أيامنا هذه حربا دينية بكل ما في الكلمة من معنى. ولعلها تحمل إشارات واضحة بأننا شهود على الفصل الأخير من هذا الصراع الذي سيميز الحق من الباطل والطيب من الخبيث والصادق من الكاذب…. وهو فصل قد تطول أيامه وتكثر أحداثه وتستعر أهواله… لكنها بالتأكيد تتصاعد بصورة غير مسبوقة منذ النكبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى