أخبار عاجلةأدب ولغة

قصة معقدة مع الوقت

أحمد عاشور

كيف يمر الوقت؟ كيف يُحسب؟ هل بالدقائق أم بقطرات الدم؟

لا أجدُ إجابةً لذلك، يعنيني مشهد طفلٍ صغيرٍ يركب المرجيحة وينتقل بسرعته القصوى من أسفل إلى أعلى، متحكماً في الزمن ومتحكماً في ما يراه، يمرنُ نفسهُ على النسيانِ إن قفز إلى الأعلى، وعلى التذكر إن هبط بأرجوحتهِ، وهنا يفقدُ الوقت قيمته. أدركتُ هذه الإجابة حين انتقل إلى العيشِ في خيمتنا، ابن أخي محمود ذو الأربع سنوات بعد أن أخطأتهُ شظايا الصاروخ هو وعائلته بتفاصيل قد لا تتكرر مرتين، كأن يغيّر مكان نومهِ قبل الحادث بدقائق باحثاً عن النوم على صدر أبيهِ فيحميهُ ذلك من شظايا الصاروخ التي سقطت في مكان نومهِ، وأحالت غرفته الصغيرة إلى عالمٍ رمادي لا شريك فيه إلّا الغبار والضباب الناتج من تحطم الحجارة، تمشي داخل الضباب ماداً يديك أمامك تتحسس المكان وتبحث عن أفراد عائلتك وكأنك قد فقدت ما هو أكثر من بصرك، كأنك غرقت في البحر وتُحرك يديك بلا جدوى باحثاً عن ما بعد الماء الذي لا ينتهي.

يغادرُ محمود الخيمة عند السادسة صباحاً، يستيقظُ محمود مبكراً، لا يتحدث ويبقى شارد الذهن، يجدُ ضالتهُ في اللعبة التي يتأرجحُ فيها جسده الصغير ويقولُ فيها كل شتائمهُ الصغيرة دون أن ينهرهُ أحد، لم تكن هذه المرة الأولى التي ينجو فيها محمود من القصف، فقد نجا مراتٍ أخرى حين كان يرافق والدهُ في مشاوير قصيرة بالسيارة فكانت تسقط القذائف أمامهم أو بجانبهم، وكان قد جرب النجاة مصادفةً حين غادر برفقة عائلته بيت العائلة في تل الهوى ساعةً واحدة قبل ذلك القصف المجنون الذي أودى بحياة أطفالٍ في مثل عمرهِ، كانوا جيراناً صرخوا صرخات الحياة الأولى معاً وسمع كل منهما الآخر لأن الجدران التي سقطت كانت لا يفصلها إلّا أمتار قليلة، وحرمتهم الحرب الذهاب معاً إلى المدرسة، وقضت على فرضية أن يصبحوا أصدقاء.

كيفُ يمرُّ الوقتُ لشخصٍ مثلي فرضت عليهِ الحرب أن يعيش بعيداً عن أسرته الصغيرة حيث قادهم النزوح المتكرر إلى تجربة نزوحٍ جديدة خارج البلاد، فيما بقيتُ أنا هنا مع من تبقى من عائلتي، ولأستعير إجاباتٍ أكثرَ حلماً مما يفترض أستخدمُ ذات الحيلة وأجلسُ إلى جانب مرجيحة الأولاد حين ينامون ويحل الليل وأستخدمها لوضع بعض مقتنياتي الصغيرة وأحركها كبندول ساعة قديمة وأظلُّ أراقبها تتحركُ ببطء يزدادُ حتى تتوقف، ويكونُ هذا الوقت هو حلّي للنسيان أو للشرود للحظة من كل ما يحدث والتوحد مع الليل.

في الليل تتضاءل احتمالات الموت، فإن أتى، سيأتي إليك في خيمتك، وسيسمع صوتَه في هدوء الليل كثيرون، سيذكرونك وسيقولون إنّ شخصاً ما في مكانٍ ما قد زارهُ ضيفٌ ثقيلٌ نسمعُ صوتهُ ونرى وهج ضوئه في وسط العتمة، وستستغرقُ سيارةُ الإسعافِ وقتاً أقل حتى تصل، إن كان لوصولها داعٍ، ولأنك في خيمة وتجلس بجانب أرجوحة أطفال، فلن يستدعي ذلك معدات حفر وبناء لإزالة ركام غير موجود عن جسدك.

يخطرُ لي عند الجلوس في هذا المكان الاتصال بصديقي الذي قد يجلسُ الآنَ في ذات المكان الذي حدثني عنهُ مرةً على سطح غرفة يعيش فيها هو وعائلته المكونة من أفرادٍ كثر، ويختار الصعود في كل ليلة إلى سطح هذه الغرفة حتى لو لم يكن هناك طريق سهل للصعود، لأن سطح الغرفة هو المكان الوحيد الذي لا يشاركهُ فيهِ أحد، على الأقل ليس بسهولةٍ لا يتمناها هو بعد نهاية يوم وتفاصيلهُ التي لا نهاية لها. تجمعُ بيننا مفاعيل كثيرة في هذا الليل تجعلنا نجلسُ في المكان نفسه تقريباً، فكلانا نازحٌ الآن في المنطقة المدعوة بالمواصي، وكلانا على امتداد الشريط الساحلي لغزة في منطقة ما بين ساحل المنطقة الوسطى وساحل مدينة خانيونس، ولو أخذنا خطاً عمودياً لامتد بيننا دون أي انحراف، وهو الخط نفسه البادي أمامنا واضحاً في السماء الذي تخطهُ الطائرة، وحينها أخبرهُ أو يفعلُ هو ويخبرني بأن طائرة ما من نوع كذا ستراها بعد قليل أو تراها الآن بالفعل، كيف يبدو حجمها من زاويتك وكيف يسمعُ كلانا صوتها في هذه اللحظة التي تتوسطُ بها الطائرة ليلنا!

يعاني أهل غزة منذ عقود من صوت ما يُدعى الزنانة، وهي طائرة مسيَّرة مهمتها غالباً التجسس والتصوير، وفي هذه الحرب ظهرت أنواع مختلفة منها، بل ظهرت طائرات بجنسيات مختلفة في هذه السماء الصغيرة، يجمعُ بينها كلها صوت الضجيج الذي يشبهُ ما يُستخدَم أداةَ تعذيب في سجون القمع، صوت أزيز مستمر لا ينقطع، تزيدُ من وحشته قماشة الخيمة حيثُ لا موانع بينهُ وبين أذنيك ورأسك، ولأنّ هذا الاحتلال فاشيّ وبلا قلب وبرأس وحش، فإنّ بعض الأنواع الجديدة من هذه الطائرات تستخدم صوت أطفال يبكون إلى جانب صوت محركها المزعج، ويتملكنا العجز من تحليل كل هذه القسوة والسبب وراء هذه السادية في توظيف أصوات الأطفال الباكية أداةً.

وحين أسأل صديقي إن كان يخشى من ردة فعل من يقود الطائرة حين يصور شخصاً مثلهُ على سطح غرفة في وسط هذا الليل، فيقول لي: لا أخاف، لأنهم سيقولون إني مجنون، وبهذا يكون هدفهم قد تحقق.

لا توجد صورة واحدة قديمة تجمعنا تصلحُ لاستخدامها الآن، كلٌّ منا قد تحول إلى كائنٍ آخر، نَـصفُ بعضنا أحياناً بـ “الزومبي” لا شكلنا الخارجي الشكل نفسه، ولا ذاكرتنا تعمل بذات الطريقة، ولا نستطيع التمييز بين الضحك والبكاء. فقد تبكي تعبيراً عن موقف مضحك تغالبك الدموع وأنت تضحك، ويغالبك الضحك مرات كثيرة في حين يفترض بك أن تبكي فيه. هذا ما تفعلهُ بنا الحرب ويفعلهُ بنا الانتظار، هذا ما يحدثُ وأنت تطارد الذباب الذي يأتي لمهاجمتك في الخيمة صباحاً حيث لا باب أو نافذة، وتفكرُ في من فكّر أول مرة في وضع الشبك خلف النافذة الذي تفتحُ لمنع دخول الحشرات، هل جرّب العيش في خيمة قبل أن يسكن بيتهُ؟ وحين يبدأ سطوع ضوء الشمس في وجهك صباحاً لأن القماشة البيضاء لا تمنعهُ عنك ولا تمنع نفحات الهواء الخماسيني الذي يزور الخيام قبل غيرها، حين يهبّ في منطقة مفتوحة زراعية مثل منطقة المواصي التي لا تحتوي على أي خدمات أو بنى تحتية تعينك على نقل المياه وعلى شعورك بآدميتك حين تحتاج إلى استخدام مرافق صحية.

الحياة في خيمة والعودة إليها على امتداد أجيال ما بين النكبتين، أو النكبة والإبادة، وآلاف الأطفال الذين قضوا أو عانوا كلّ هذه الويلات… تستدعي ملايين الأسئلة عن كيف حدث هذا كلهُ!

* كاتب من غزّة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى