أخبار رئيسيةعرب ودولي

ميديا بارت: كيف تلاعب منظمو الأولمبياد بالأهداف البيئية؟

اتهم موقع التحقيقات الشهير ميديا بارت منظمي الألعاب الأولمبية التي اختتمت في باريس مساء الأحد بالتحايل على الالتزامات البيئية التي قدموها، عبر إطلاق مشاريع إيكولوجية بلا قيمة أساسها إعادة التشجير، وتخضع أساسا لمنطق اقتصادي تشجعه الحكومة وشركات صناعة الخشب.

وكانت اللجنة المنظمة وعدت نهاية يونيو/ حزيران الماضي بأن يكون أولمبياد باريس الأكثر حفاظا على المناخ في التاريخ، وأعلنت لتحقيق ذلك أنها ستعوض 1.5 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ستسببها الألعاب، بإطلاق مشاريع في فرنسا والعالم تحتجز هذا الغاز، مثل حماية الحظائر الطبيعية أو استعادة النظم الحيوية.

ويتعلق الأمر في فرنسا بـ4 مشاريع تشمل إعادة تشجير غابات مهددة في مناطق “فال دواز” و”آسن” و”لي فوسج” و”إيستومبيي”، بما يسمح -حسب المنظمين- باحتجاز 14 ألفا و500 طن من ثاني أكسيد الكربون تمثل 1% من الانبعاثات التي سببتها النشاطات المرتبطة بالألعاب منذ 2018، في حين تُعوَّض الـ 99% الباقية، نظريا، بـ9 مشاريع في عدد من دول الجنوب، علما أن إعادة التشجير هو المعيار الوحيد المعتمد في فرنسا لتعويض الانبعاثات، وأن الكلفة في هذا البلد تفوق 6 إلى 7 مرات المعدل الدولي حسب اللجنة المنظمة.

التعويض الكربوني
وفي تحقيقها بعنوان “منظمو الأولمبياد يمولون مشاريع بلا قيمة لتعويض الانبعاثات”، كتبت ميديا بارت أن الفكرة على الورق تبدو بسيطة للغاية: زراعة أشجار في فرنسا تمتص مستقبلا جزءا من انبعاثات الكربون التي تسببها البطولة، لكن العلماء الذين تواصل معهم موقع التحقيقات ذكّروا بإشكالات رئيسية في المشاريع: اختيار أصناف شجرية غير معروفة جيدا، ومساحات تشجير ضئيلة للغاية، ناهيك عن غياب العائد الإيكولوجي وأيضا أي ضمان بإلزامية النتيجة.

وردت اللجنة المنظمة على الاتهام بالقول إن المشاريع تتحقق فيها معايير تعويض الكربون التي تحددها الوكالة الفرنسية للانتقال البيئي.

وكانت جمعية “كانوبي” الفرنسية للدفاع عن الغابات نشرت دراسة في 2023 تنتقد اعتماد التشجير أسلوبا لاحتباس غازات الانبعاث، وتحدثت حينها عن “فرق زمني بين الكربون المنبعث في لحظة معينة وبين ذلك الذي يُحتمل أن تمتصه الأشجار خلال 30 عاما”.

وجاء في الدراسة: “بين هاتين اللحظتين، قد تضمر الشجرة بسبب القوارض أو تتعرض للحرائق أو تنمو بشكل أبطأ بسبب الجفاف، وجميعها عوامل يفاقمها أكثر فأكثر التغير المناخي”.

وحسب سيدني فينين وهي خبيرة في منظمة غير حكومية لحماية الغابات على مستوى الاتحاد الأوربي، فإن متوسط إخفاق زراعة الأشجار في فرنسا بلغ في 2022 مستوى قياسيا هو 38% وباعتراف وزارة الزراعة.

ويقول المسؤول في الجمعية الفرنسية للنباتات جون ماري دوبون إن ما يزعجه في مشاريع اللجنة المنظمة أن “الغابات ليست هي ما يحتجز النسبة الأكبر من الكربون وإنما المناطقُ الرطبة والمستنقعات”، وأضاف أن الأمر يتعلق بسياسة تشجير أكثرَ منه بإستراتيجية لتعويض الكربون.

وقدرت كلفة هذا البرنامج الذي أطلقته اللجنة المنظمة بـ 600 ألف يورو، ويستهدف مشروعين للتعويض الكربوني تنفذهما الوكالة الفرنسية للغابات، فضلا عن آخرين تنفذهما الجمعية الغابية لصندوق الإيداعات في فرنسا، والتي سيكون عليها زراعة 52 هكتارا في غابة جديدة في منطقة “فال دواز” تمتد على 1340 هكتارا، وتشمل 14 صنفا شجريا بينها البلوط، إضافة إلى أصناف متوسطية مثل الزان، بهدف استباق التغير المناخي.

فشل متوقع
لكن جوناثان لونوار من المركز الفرنسي للبحث العلمي والمختص في دراسة آثار التغير المناخي على توزع الأنواع يرى أن “التشجير باستخدام هذه الأصناف الشجرية، تحسبا للاحتباس الحراري، قد ينتهي بالفشل، خاصة أن فصول الشتاء قد تكون أكثر قسوة في منطقة إيل دو فرانس (منطقه إدارية شمال وسط فرنسا عاصمتها باريس) بالنسبة لبعض الأصناف التي موطنها الجنوب”.

وما يثير شكوك العلماء أكثر هو المشروع الثاني الذي يديره الصندوق الوطني للإيداعات (وهو بمثابة الذراع الاستثماري للدولة الفرنسية)، حيث يُفترض تشجير إحدى الغابات الشهيرة في منطقة في “لي فوسج”، وتشمل 13 هكتارا من أشجار التنوب التي أضرت بها الحشرات القارضة، لكن الأصناف الثلاثة المستخدمة جميعها من تلك التي تفضلها شركات صناعة الخشب، وبينها تنوب دوغلاس والصنوبر الأوروبي بنسبتي 43% و50% على التوالي.

يقول جان ماري دوبون من الجمعية الفرنسية للنباتات: “الأمر عبثي من الناحية البيئية، فتحت غطاء زراعة أصناف تقاوم أفضلَ التغيرات المناخية، تُزرع أنواع صمغية خارج بيئتها الطبيعية. يمكننا أن نرى كيف تغلب المنطق الاقتصادي على المنطق البيئي في هذا المشروع”.

المنطق ذاته يحكم -حسب ميديا بارت- مشروعين آخرين تشرف عليهما الوكالة الوطنية للغابات في غابة “ريتز” في منطقة “آسن”، حيث يفترض إعادة تشجير مساحات دمرت، بحيث يُعتمَد بنسبة 45% الصنوبرُ البحري (وهو فصيلة تزرع لأغراض صناعة الخشب في منطقة “لوند” جنوب غرب فرنسا) والبلوط اللاطئ بـ 33%.

لكن جوناثان لونوار من المركز الفرنسي للبحث العلمي يصف زراعة أشجار صنوبر بحري في غابة “ريتز” بالمجازفة، فـ “التغير المناخي يسفر فعلا عن فصول شتاء أكثر دفئا، لكن الاحترار لا يمنع حلول فترات صقيع متأخرة في المناطق القارية قد تقضي على الصنوبر البحري الذي يتحكم في توزّعه في فرنسا مدى خضوعه للتأثيرات المحيطية”.

احتيال بيئي
ويصف البروفيسور غويوم دوكوك مدير وحدة الإيكولوجيا وديناميكية النظم البيئية المصطنعة في جامعة “بيكاردي جول” مشروع غابة “ريتز” بنوع من الاحتيال، فـ “هم يعوّضون الكربون في منطقة صخرية كانت ستستعيد غطاءها الشجري في كل الحالات، بفضل الألعاب الأولمبية أو بدونها، لأن غابة ريتز سريعة النمو”.

وتدافع الجمعية الغابية للصندوق الوطني للإيداعات عن مشروعها لاستخدام تنوب دوغلاس والصنوبر الأوروبي لإعادة تشجير جزء من غابة “فوسج” بالقول إن هذين الصنفين أثبتا نجاعتهما في حماية التنوع البيئي والحفاظ على أحد المجاري المائية، لأن المشروع ينجز على بعد 10 أمتار من النهر.

يقلل غويوم لوكوك المختص في الإيكولوجيا وديناميكية النظم البيئية من هذا الزعم قائلا إن “الأشجار الصمغية تصنع بفضل إبرها فروشا حرجية (طبقة فوق التربة من بقايا النباتات أو جثث الحيوانات) توفر نظما بيئية غير عملية لا تلائم إلا عددا قليلا من الأنواع. أما التشجير على مقربة من المجاري المائية للحفاظ عليها، فتقليد معمول به أصلا” في فرنسا.

وتقول الجمعية الغابية لصندوق الإيداعات إن مشروعيْها في غابة “فوسج” وفي منطقة “فال دواز” سيسمحان باحتباس نحو17 ألفا و600 طن من الانبعاثات على مدى 30 عاما، على أن يجري تقييم كل 5 سنوات.

بلا ضمانات
ورغم أن تقييما كل 5 سنوات يسمح فعلا بتقدير نجاح تجذر الأشجار، فإنه لا يحمل إطلاقا أي ضمان بتعويض الانبعاثات كما يزعم المشروع حسب عالم البيئة جوناثان لونوار الذي يحذر من أن “هذا النوع من الإعلانات قد ينزلق بنا سريعا نحو التضليل البيئي إذ لا ضمانة إطلاقا بإلزامية تحقيق النتيجة، فالأشجار التي زرعت قد تموت أو قد تُحطَب لاحقا للحصول على خشبها”.

الجمعية الغابية لصندوق الإيداعات أكدت في ردها على ميديا بارت أن كل مالك سيُطلَب منه التزام بالحفاظ على أشجاره 30 عاما عبر استصدر وثيقة إدارة مستدامة تدققها سلطات الدولة.

اللجنة المنظمة للأولمبياد أكدت هي الأخرى أن المشاريع ستخضع لعمليات تقييم على طول المدة، وليس كل 5 سنوات فحسب.

أما المشروع الثاني للتعويض الكربوني الذي تشرف عليه الوكالة الوطنية للغابات فيقع بغابة “مونمورينسي” في منطقة “فال دواز”، وهي غابة اجتاحها مرض فتاك، بحيث تُزرع على مساحة 80 هكتارا 3 إلى 4 أصناف شجرية أهمها البلوط اللاطئ، “لكن منطقة مونمورينسي تعرف ميلا لمكننة أساليب الإدارة الغابية بحيث حُجمت مساحة الأرض بمرور السنوات حتى بات صعبا حصول الأشجار على نصيبها من الماء” كما يشرح جوناثان لونوار الباحث في المركز الفرنسي للبحث العلمي.

ورغم أن لونوار يصف اختيار الأصناف الشجرية في هذه المنطقة بالمثير للاهتمام، فإنه يذكّر بأن من الصعب للغاية نموها في أرض ضيقة.

ويقول جون ماري دوبون من الجمعية الفرنسية للنباتات إن المشاريع الأربعة بلا معنى، وإن “التعويض الكربوني بهذا الشكل مسيء إلى سمعة الألعاب الأولمبية”.

لوبيات الخشب
ويرى خبراء الغابات أن ما يتحكم في المشاريع منطق تريد تغليبه الحكومة وشركات صناعة الخشب، ومفاده أن الأشجار لا تستطيع التأقلم مع التغير المناخي، ويجب بالتالي اعتماد سياسة التشجير، “فنزيل الأراضي المتدهورة ونزرع أصنافا موطنها الجنوب وسريعة النمو، بما يستجيب لمتطلبات الشعارات الزائفة التي يرفعها القطاع الخاص باسم الدفاع عن البيئة ويحقق مصالح أرباب صناعة الخشب”، كما يقول رافائيل كيفير المسؤول النقابي في الوكالة الوطنية للغابات.

ويذكر كيفير بأن هذا الزعم يتجاهل أن الأشجار تملك قدرة تأقلم كبيرة بسبب تنوعها الجيني، ويتجاهل أن من الضروري المراهنة على قدرة هذه الكائنات على إعادة بعث نفسها طبيعيا.

ويدعو جان ماري دوبون المسؤول في الجمعية الفرنسية للنباتات للتركيز على حماية الغابات القديمة، لأن ذلك أجدى في احتباس انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، “لكنها ليست القصة المثيرة التي تليق بجمهور الألعاب الأولمبية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى