كنت أظن أني أعمل عنده وإذا به هو من كان يعمل عندي
الشيخ كمال خطيب
لا تسأل كيف مات، ولكن اسأل كيف عاش
بينما كان أحد الصحابة يركب راحلته وهو محرم في موسم الحج وعلى جبل عرفات، وإذا بجمله يتعثر فسقط الصحابي وانكسرت عنقه ومات، فقال النبي ﷺ: “لا تحنّطوه -أي لا تضعوا له الحانوط وهو الطيب-، ولا تخمروا له رأسه -أي لا تغطوه-، فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا” لأن من السنة ألّا يتطيب المحرم في الحج ولا يغطي رأسه.
وقياسًا على شكل ميتة ذلك الصحابي رضي الله عنه وبشارة النبي ﷺ له بأن يُبعث يوم القيامة ملبيًا “يقول لبيك اللهم لبيك” وهي العبارة التي مات وهو يقولها وهو على جبل عرفات ويلبس ثياب الإحرام، فإن المسلم يستبشر خيرًا بمن مات وهو مقيم على طاعة ويؤدي لله عبادة، كمن يموت وهو صائم، ومن يموت وهو ساجد، ومن يموت يوم الجمعة، ومن يموت وهو في المسجد أو غير ذلك.
وإذا كان رسول الله ﷺ لم يمت صائمًا ولا أبو بكر قد مات ساجدًا، وكما قال الأستاذ أدهم الشرقاوي: “حسن الخاتمة ليست مقصودة على أن تموت في عبادة، حسن الخاتمة أن تموت وليس للناس عندك حقوق، أن تموت وقد سلم الناس منك في أموالهم وأعراضهم ودمائهم، أن تموت واصلًا رحمك، بارًا بوالديك”.
فكم من الناس قضوا أعمارهم في ذنوب وآثام وحرام وتقصير في حق الله وحق عباده، فإذا مات أحدهم في يوم جمعة فليس معنى ذلك طيًّا لصفحة أعمالهم وما فعلوه طيلة أعمارهم، كما قال الأستاذ الشرقاوي في جملة رائعة له: “إن القضية ليست كيف مات المرء بقدر ما هي كيف عاش”.
فكم من الناس من عاشوا في هذه الدنيا سنوات طويلة وعقود كثيرة، لكنهم عاشوا للدنيا وليس للدين، عاشوا للأنا وليس لله، عاشوا للشهوات وليس للطاعات، عاشوا ولم يتركوا لهم بصمة ولا أثرًا في خدمة دينهم وأمتهم ودعمًا لقضايا شعوبهم.
إنه الفارق الكبير بين من بلغوا 80 سنة ولعلهم ناهزوا الـ 90 وكانت كلها سنوات طيش وهوى وزيغ، بل ولعلها سنوات خيانة وتآمر على أمتهم وظلم لشعوبهم وتحالف مع أعدائهم، وبين من عاشوا سنوات قليلة ولكنهم رحلوا من الدنيا وقد ملؤوها خيرًا وفضلًا كحال سعد بن عبادة رضي الله عنه الذي مات وهو ابن 37 سنة لكنه لما مات نزل جبريل من السماء يقول لرسول الله ﷺ: “من هذا الذي اهتزّ عرش الرحمن لموته؟”.
وهذا عيسى بن مريم عليه السلام وقد رُفع من الأرض إلى السماء وهو ابن 33 سنة لكنه ملأ الدنيا أثرًا، وهذا عمر بن عبد العزيز من اصطلح عليه أنه خامس الخلفاء الراشدين ومن بلغ عدله الآفاق فقد مات وهو ابن 44 سنة، وهذا سيبويه عالم اللغة وإمام النحو فإنه مات عن 33 سنة ولا يُذكر علم النحو إلا ويُذكر سيبويه، وهذا الإمام النووي صاحب كتاب رياض الصالحين فإنه مات ولم يتجاوز 45 سنة ولعل كتابه دخل بيوت أكثر المسلمين، وهذا فاتح القدس ومحرر الأقصى من الصليبيين صلاح الدين الأيوبي فإنه مات عن عمر 56 سنة، وهذا الإمام حسن البنا وهو الذي أرسى قواعد الصحوة الإسلامية العالمية الحديثة، فإنه قد قُتل وهو ابن 42 سنة. إنه لا يوازي الموت في سبيل الله إلا حياة وعمرًا يُقضى كله في سبيل الله. اللهم حياة وعمرًا في سبيلك، وميتة أنت ترضاها لي يا رب العالمين.
أنت غالٍ عند الله
صحابي جليل اسمه زاهر كان قلبه بالإيمان عامر، ولكنه كان دميم الوجه. كان زاهر يأتي من البادية حيث يسكن إلى المدينة المنورة، وكان النبي ﷺ يحبه كثيرًا، بل كان يمازحه ويمرح معه.
فبينما زاهر يقف ذات يوم فرآه النبي ﷺ، فجاءه من الخلف واحتضنه وجعل ينادي ممازحًا زاهرًا ويقول: من يشتري العبد؟ فقال زاهر يرد على الدعابة بمثلها: يا رسول الله إذًا تجدني والله كاسدًا، يقصد لأنه دميم الوجه وليس وسيمًا. فقال النبي ﷺ: لكنك عند الله غال، أي إذا كان الناس يزهدون بك، لأن مقياس ومعيار القيمة عندهم هو المظهر والجمال، فإن معيار الله ومقياسه يختلف عن ذلك وإنما هو معيار التقوى والقلوب التي في الصدور، ولذلك فأنت عند الله غال يا زاهر.
وليكن هذا هو شعار وميزان كل واحد منا فإياك أن تشغل نفسك ومن تكون في أعين الناس، وإنما أشغل نفسك كيف ومن تكون في عين الله تعالى.
قد يجهل الناس صدقك وصفاء قلبك لأن لهم الظاهر، ولعلك لا تساوي شيئًا في ميزانهم الأعوج، ولكنك إذا ما رفعت يديك تدعو ربك بانكسار وتذلل قالت الملائكة كما ورد في الأثر الشريف: “يا رب صوت معروف من عبد معروف”.
قد يجهل الناس قيمة فلان فيهجونه ويزهدون به لما يرونه من بساطة ثيابه، ولا يعلمون ويحهم أن فلانًا هذا مستجاب الدعوة كما قال ﷺ: “رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه”، وفي رواية: “مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه”.
وقد يموت فلان ويرحل من الدنيا فلا يبكيه أحد ولا يشعر بغيابه ورحيله أحد، ولكن ولأنه كان في عين الله كبير وغال، فإن الطريق الذي كان يسلكه إلى المسجد فإنه يبكيه ويحزن عليه.
وقد يموت فلان ويرحل من الدنيا ولا ينزل أحد عليه دمعة لأنه كان في ميزان أصحاب القلوب القاسية لا يستحق ذلك، ولا يعلم هؤلاء أن هذا الشخص كان إذا جنّ الليل خاطب الله تعالى بدمعات ساخنات تسيل على خديه خوفًا وخشية من ربه، فيقول له الله: “بعينيك الدامعتين خوفًا وخشية مني فإنني حرمت جسدك على النار”.
فلا تشغل نفسك بمكانتك بين الناس، وأشغل نفسك كيف تكون مكانتك عند رب الناس سبحانه.
من هو البطل؟
ليست الأناقة بارتداء البدلات الرسمية من أشهر المعارض للأزياء في باريس وروما واسطنبول، ولا بربطات العنق مصنوعة من الحرير الخالص مرصعة بالياقوت والأحجار الكريمة. وإنما الأناقة هي بطيبة القلب ودماثة الخلق ودفئ حديث اللسان، وما أصدق ما قاله الشاعر:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وليست اللياقة فيمن يقطع مسافة 100 متر خلال ثوانٍ أو يقطع 1000 متر في بضع دقائق، وإنما اللياقة فيمن يقطع الطريق من بيته إلى المسجد كلما نادى المنادي حي على الصلاة حي على الفلاح وهو يعلم أن الله سبحانه بكل خطوة يخطوها تُكتب له حسنة وتمحى عنه سيئة ويرتفع عند الله درجة.
وليست البطولة كما يقول الأستاذ أدهم الشرقاوي برفع 100 كيلو جرام أو يزيد في نادي رفع الأثقال، ولكن البطولة هي برفع لحاف وزنه كيلوغرام واحد وإزاحته عنك ثم تقوم لصلاة الفجر.
ظننت أني أعمل عنده ليتبين أنه كان يعمل عندي
قال الله تبارك وتعالى:{كَمۡ تَرَكُوا۟ مِن جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ*وَزُرُوعࣲ وَمَقَامࣲ كَرِیمࣲ*وَنَعۡمَةࣲ كَانُوا۟ فِیهَا فَـٰكِهِینَ*كَذَ ٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِینَ*فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} آية 24-29 سورة الدخان. إنها الآيات التي تتحدث عن فرعون الطاغية المتألّه الذي قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} آية 24 سورة النازعات. ولكنه فرعون الذي أذلّه الله وأخزاه وأغرقه في البحر، وجعله للناس آية وعبرة.
رحل فرعون وهلك هو وقومه، وتركوا خلفهم الجنّات والمزارع والخيرات والينابيع والأرزاق لا يعلمها إلا الله، لقد رحلوا وهلكوا وتملّكها غيرهم وورثها من لم يتعبوا فيها ولم يبذلوا جهدًا ولا مالًا.
ومثل الذي حصل لفرعون وقومه، فإنه وقع في التاريخ كثيرًا وسيقع أكثر لأمم وشعوب ظلمت وبغت وطغى حكامها فكانوا سبب هلاكها وزوالها، وإذا بكل ما أوتيت من أسباب الرفاهية ورغد العيش يقع غنيمة سهلة بأيدي غيرها {وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِینَ} آية 28 سورة الدخان.
إن مثل تلك الشعوب الظالمة الباغية مع الشعوب المقهورة المظلومة، كمثل ذلك الغني وصاحب الثراء الفاحش الذي حتى كان لا يقود سيارته بنفسه وإنما استأجر سائقًا يتنقل به هو وزوجته حيثما ومتى يشاء.
انقضت عشر سنوات على عمل ذلك السائق عند ذلك الثري حتى قدّر الله للثري أن يموت لتنتقل كل ثروته إلى زوجته لأنه لم يرزق بذرية.
مرّت أشهر على وفاة الزوج وإذا بالزوجة الثرية تعرض نفسها على السائق ليتزوجها لما رأت من حسن أخلاقه وأمانته. وليس أنها قد أصبحت هي زوجته وإنما أصبح المال الذي ورثته عن زوجها كلّه بين يديه، فكان يناجي نفسه وهو يقول: عملت عنده عشر سنوات واكتسبت بعض المال ليتبين أنه هو من كان يعمل عندي وترك لي المال كله”.
إنه قانون الله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير*تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} آية 26-27 سورة آل عمران.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.