أخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (207).. الصفقة ومعركة عضّ الأصابع….

حامد اغبارية

على صوت الطائرات وقصف المدافع والألغام المتفجرة والكمائن وأنهار الدماء التي تسيل من أجساد الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ من المدنيين، وأمام الأنقاض المتراكمة التي تتعالى من تحتها صرخات الموت تارة، وصيحات الثبات تارة أخرى، وانبعاث الحياة من بين براثن أطنان المتفجرات والباطون المسلح تارة ثالثة، يجري الحديث عن الصفقة التي تقف أمام حواجز أو تقف أمامها حواجز عالية وضعها الاحتلال في محاولة منه لممارسة المزيد من الضغط لتحقيق أفضل ما يمكن من الشروط، وكسب الوقت الذي بات ينفد بسرعة البرق، باعتراف القيادات العسكرية الإسرائيلية.

يسمونها في الإعلام “صفقة تبادل”، لكنها في حقيقتها ليست مجرد صفقة تبادل، وإنما هي صفقة شاملة سيكون لها -إن قُدّر لها الخروج إلى النور- أكبر الأثر على الأطراف. هي صفقة أظنها ستقرر مصائر وترسم المستقبل بصورة مختلفة.

أمام هذا المشهد المزدوج؛ ما بين العمليات الحربية والجهود الدبلوماسية لتحقيق الصفقة يتبادر السؤال: من هو الطرف الذي يرى الصفقة حاجة ملحّة وضرورية لوضع حدّ لمعاناته أكثر من الطرف الآخر؟ هل هو الاحتلال أم هي المقاومة الفلسطينية؟

قد يبدو للكثيرين، من الذين يقيسون المسألة بحجم الدمار الذي ألحقه الاحتلال بكل مقومات الحياة في غزة، أن المقاومة هي الطرف الأضعف، وأن عناصر الضغط عليه أكبر من أن تُحتمل. فهناك عشرات آلاف الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين، ولم يُبق الاحتلال، بحربه المجنونة على قطاع غزة، حجرا على حجر. فقد دمر البنى التحتية، ودمر المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس والجامعات والمساجد ومراكز الإيواء ومصادر المياه والمزارع والمصانع والأسواق، ويخوض حرب تجويع ممنهجة، يمنع من خلالها إدخال الغذاء كما يمنع إدخال الدواء، وإن استطاع منع دخول الهواء لفعل. وغزة المدمرة تحولت إلى أنقاض تحتاج – بحسب التقديرات الدولية- إلى مليارات الدولارات وإلى سنوات طويلة جدا كي تُزال، ومثل ذلك وأكثر من الأموال والسنين كي يعاد الإعمار، وسنوات أخرى طويلة كي تتعافى من آثار الحرب المدمرة التي طال أمدها أكثر من المتوقع….

هذا بالعمليات الحسابية البسيطة منطقي ويبدو مقنعا. ولكن…

كيف هو حال الاحتلال في ذات السياق؟

ليست غزة وحدها هي التي تعاني وتنزف. بل الاحتلال يعاني وينزف، ربما أكثر من غزة.

نحن لا نتحدث عن مجموعتين متساويتين في القوّة والعدّة والعتاد والدعم الخارجي والإمدادات. نحن نتحدث عن بقعة جغرافية صغيرة جدا حشر فيها الظالمون في القارات السبع مليونين ونصف مليون من البشر، يحاصرونها -كلُّهم- منذ نحو عقدين من الزمن في جريمة لو تحقق العدل لعوقبت القارات السبع بمن عليها من أسافل الجنس البشري من المتعطشين للظلم والدماء، من عبيد المال والسطوة. لكن هذه البقعة اتضح خلال سنوات الحصار، وعلى مدار تسعة أشهر من تلك الحرب المجنونة، أنها عصيّة ليس على الاحتلال الإسرائيلي فحسب بل على القارات السبع. وفي الجهة الأخرى دولة تملك كل مقومات القوة العسكرية والمادية والسياسية والاقتصادية. فهي إذًا معادلة غير متوازنة بالمعايير المادية..
لذلك فإن الألم الذي ينهش في جسد الاحتلال هو عشرات أضعاف الألم الذي يعيشه غزة وأهلها.
الاحتلال يعيش حالة من الانهيار غير مسبوقة، لذا فهو الطرف الأكثر حاجة للصفقة، ليس فقط لتحقيق ما فيها من بنود وإنما للخروج من المأزق- الفضيحة!

وهل هناك مأزق-فضيحة أكبر من أن تجد دولة، بكل ما تملك من عناصر البطش، تخوض حربا ضد أناس لا تراهم، دون أن تحقق شيئا من أهدافها المعلنة، باعتراف كبار مفكريها ومحلليها وسياسييها وعسكرييها وخبرائها؟

الاحتلال هو الطرف الأضعف في معادلة الصفقة، لأن هناك مائة وعشرين أسيرا (وربما أكثر) من أبنائه لم يستطع أن يحررهم حتى الآن، وليس أمامه إلا صفقة تحقق له ذلك!

والاحتلال يعيش صدمة خفيّة تتسرب إلى العلن بين الحين والآخر بسبب امتداد الحرب طوال هذه المدة التي لم يتوقعها حتى أكثر الخبراء خبرة وذكاء.

والاحتلال فقد ويفقد من قواته البشرية والمادية من جنود وعتاد ما لم يكن يتوقعه لا هو ولا غيره من داعميه. حتى أن هناك من عبّروا في أكثر من مناسبة عن فقدان صوابهم مما حدث ويحدث في ميدان المعركة. كيف يحدث هذا؟ إنه لأمر عجيب! إنه أشبه بالخيال!! (ذاتس إنكريديبل) … هذا مستحيل!!
والاحتلال يواجه أزمة كبيرة ستبدو آثارها الأكبر لاحقا، تتعلق بآلاف الجنود الجرحى الذين يعانون من الإعاقة الجسدية، والذين سيشكلون عبئا اقتصاديا هائلا وعبئا اجتماعيا أكبرَ هوْلًا، ومعهم آلاف الجنود الذين يعانون من اضطرابات نفسية ما بعد الصدمة، وهي اضطرابات سترافقهم طوال حياتهم وسوف تسبب -بحسب خبرائهم- إلى حالات انتحار وتفكك أُسر ..

ونحن نسمع في الأيام القليلة الماضية رشحا من المعلومات التي بدأت تتسرب من الجانب الإسرائيلي حول ما فقده ويفقده من عتاد عسكري وحاجته إلى المزيد منه، خاصة دبابات الميركافاه وناقلات الجنود. وهذا أمر كبير إذا ما نظرت بتمعن في طرفي المعادلة- المواجهة.

كما نسمع ما يقال وما لا يقال، ونقرأ السطور وما بين السطور وما خلف السطور عن ظاهرة التذمر في أوساط الجنود والضباط من طول الحرب وطول فترة الخدمة، وهو تذمر يحمل معاني التمرد. وقد حدث أن مجموعات من الاحتياط أعلنت أو نُقل عنها، في الإعلام العبري، أكثر من مرة أنها تفضل السجن على مواصلة الخدمة العسكرية…

والاحتلال يعيش حالة غير مسبوقة من القطيعة الدولية على مستوى الحكومات والشعوب.
والاحتلال يعيش أزمة غير مسبوقة كذلك في علاقته بالولايات المتحدة التي تُعتبر أكبر داعم له، بل تشكل بالنسبة له شريان الحياة.

والاحتلال يواجه أزمة اقتصادية خطيرة جدا. وهي أزمة تشكل عنصرا من عناصر الانهيار، حتى لو بدا الأمر الآن بعكس ذلك. فالآثار الكارثية الاقتصادية تأتي عادة في وقت متأخر وتكون نتائجها صادمة.
والاحتلال يواجه -لأول مرة- ملفات ضخمة تحت عنوان جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية والإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.

والاحتلال يشهد انقلابا كونيا على الأقل على مستوى الشعوب، من قضية “حقه في الدفاع عن النفس” والدفاع عن وجوده…… حتى بات يسمع ما يصمّ أذنيه من مصطلحات تتردد على ألسنة الناس حول العالم، لم يكن يتخيل أنه سيسمعها ذات يوم…. وكلها تدور حول مسألة واحدة: (الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني).. ليس الآن بل على مدار سبعة عقود..
والاحتلال يعيش حالة غير مسبوقة من التمزق الداخلي.
فما شكل هذا التمزق وما حقيقته؟

لقد نجحت المؤسسة الإسرائيلية طوال سبعة عقود وأكثر ليس في الحفاظ على الوحدة الداخلية، لأنه لم تكن هناك وحدة داخلية حقيقية. بل نجحت في إدارة التمزق الداخلي أو الصراعات الداخلية، حتى بدا للعالم أنها على قلب رجل واحد. وهي في الحقيقة ليست كذلك.، حتى جاءت هذه الحرب وبعثرت الأوراق شذر مذر.

هي حالة من التمزق داخل الحكومة الواحدة.
وهي حالة من التمزق داخل الجيش والأجهزة الأمنية.

وهي حالة من التمزق بين المستوى السياسي وبين المستوى العسكري. وهذه الحالة تشكل حالة مفصلية خطيرة، خاصة بعد أن بدأ القادة العسكريون؛ بدءا من قائد الأركان، يعبرون بصراحة وفي مؤتمرات صحافية، عن رأيهم في سياسات نتنياهو، بل ويكيلون له الاتهامات بصورة غير مسبوقة كذلك.

وهي حالة من التمزق بين السلطة العلمانية وبين الشرائح المتدينة الحريدية. وهذه وحدها تشكل أحد أكبر الأخطار التي تحاول حكومة نتنياهو تأخير وقوعها. فهؤلاء يستطيعون تحويل حياة الإسرائيليين إلى جحيم في حالة إجبارهم على الخدمة العسكرية.

وهي حالة من التمزق بين الحكومة وبين المعارضة لا أذكر شبيها لها في حكومات سابقة، بما فيها حكومات نتنياهو السابقة.

وهي حالة من التمزق بين الحكومة والجيش من جهة وبين الشارع من جهة أخرى. فهذه الحرب الوحيدة التي لا تحظى بدعم شعبي من الحائط إلى الحائط، بل وتشهد مظاهرات متواصلة ومطالبات بإنهائها بأي ثمن، حتى بثمن الهزيمة….

والاحتلال يعيش حالة من التخبط بعد أن اكتشف فعلا – كما يقول كبار الجنرالات من العسكريين المتقاعدون ورؤساء حكومة سابقون وخبراء عسكريون- أن “دخول الحمام مش زي خروجه…”.. وأن الدولة الإسرائيلية تخوض عمليا حربا وجودية حقيقية…

والاحتلال واقع الآن بين فكي الكماشة. فهو بين أن ينهي هذه الحرب “ويخرج منها ولو بحبة حمص واحدة” كي يلتقط أنفاسه ويعيد ترتيب الأوراق، وبين أن يستمر فيها ليجد نفسه أمام حرب شاملة تحيط به من جهات الأرض الأربع… وهو – كما هو واضح من سلوكه – يبذل كلّ جهد كي لا تقع مثل هذه الحرب الشاملة التي ربما تكون الأثمان التي ستُدفع فيها أكبر وأعظم وأكثر مما يمكن تصوره.

إن الاحتلال الآن – فيما يبدو لي- يلعب في الوقت الضائع. فهو يحاول أن يستغل كل دقيقة وكل ثانية متبقية من ساعة الرمل التي شارفت على الانتهاء، كي يحقق أقصى ما يمكن من شروط الصفقة، متخيلا أن الطرف الآخر سوف يرضخ في نهاية المطاف، وربما يقدم المزيد من المرونة… تحت ضغط معاناة الناس في غزة. ولذلك نلاحظ في الأيام الأخيرة تكثيف عمليات قصف مراكز الإيواء وارتفاع أعداد الضحايا من المدنيين، ذلك أن الاحتلال يظن أن هذا سيقرّبه أكثر من تحقيق هدف الضغط على المقاومة الفلسطينية لإجبارها على قبول شروطه في الصفقة….

فهل يبدو أن المقاومة تسير في هذا الاتجاه؟ يستطيع كل ذي لُبّ أن يقرأ المشهد بنفسه ويستنبط الجواب.
نحن أمام حالة عض أصابع بين الاحتلال وبين المقاومة…
فمن هو الطرف الذي سيصرخ من الألم أولا؟

ما أعرفه من التاريخ -على الأقل- أنه يصعب تصوّرُ طرفٍ ضعيفٍ بمقاييس موازين القوى المادية، يصمد كل هذه المدة، ويعَضّ على الجراح، ومن خلفه حاضنة شعبية لم تنفضّ من حوله رغم عمق الجرح وشدة الألم، ثم يفكر أن يصرخ من الألم أولا!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى