ثقافة المظاهر والقشور
ليلى غليون
حب الظهور، والاهتمام المفرط في المظاهر والشكليات إلى حد الهوس يكاد يحتل حيزًا كبيرًا في مجتمعنا، وهو ليس بالأمر الجديد أو الطارئ، بل هي ظاهرة موجودة على مر الأزمنة وإن اختلفت نسبتها وقوتها في كل زمان ومكان، حتى في زمن الجاهلية، حيث التفاخر بالمظاهر والوجاهة الاجتماعية، بالقبيلة والعشيرة والمال والمواليد الذكور، لا بل وكتبت القصائد والمعلقات وعلقت على ستائر الكعبة تفاخرًا وكبرياء، بل إن الرجل في ذاك الزمان كان يطيل ثوبه حتى كاد يوقعه إمعانًا في التباهي وحب الظهور ليبدي للناظرين مدى ثرائه أو مكانته وعلو منزلته.
كما إن هذه الظاهرة ليست حكرًا على فئة محددة من الناس، إنما تنجرف في تيارها معظم الفئات المجتمعية على أنواعها، غنيها وفقيرها مثقفها وجاهلها، ممن يريدون ركوب الموجة ويتحدّون إمكانياتهم وظروفهم المادية ويضغطون على أنفسهم من أجل الظهور بمستوى لا يقل عن غيرهم وبالمظهر الاجتماعي الذي يحقق لهم حاجة نفسية معينة.
وحتى لا يفهم كلامنا في غير محله، فإن الاهتمام بالمظهر الاجتماعي الشكلي يعتبر طبيعة بشرية ولا غبار عليه ما دام في الحد المعقول، والنفس بلا شك تميل بفطرتها إلى المنظر الجميل والهيئة الحسنة التي يتمناها كل إنسان لنفسه، فالله تعالى جميل يحب الجمال والرسول صلى الله عليه وسلم حث على أن يكون ملبس المسلم نظيفًا ومظهره جميلًا حتى تكون صورة المسلمين متناسقة مع شخصياتهم ويكونون قريبين من كل مظاهر الرقي والحضارة في حدود ما دعت إليه الشريعة، ولكن المشكلة بل هي الطامة في هذا الانجراف الحاصل للمظاهر وسيطرتها على الناس وطغيان الشكليات وانفتاح الشهية للمزيد منها إلى حد الهوس والمكابرة التي تشعر الشخص بأهميته ورقي شأنه في المجتمع، والذي منبعه ليس حاجة فطرية للإنسان يريد تحقيقها بقدر ما هو مجرد رغبة لا مبرر لها سوى لفت الأنظار أو تقليد الغير أو تجنب الحرج أو الشعور بالنقص أنه ليس أقل من غيره، فيشتري ما لا طاقة له بشرائه، ويكلف نفسه ما لا تطيق، ويبدأ رحلته في الغرق في الماديات، ولأجل هذه الأهداف العليا في نظره فلا بأس لو غاص في وحل الديون ورمى نفسه في التهلكة .
فلأن تكون متأنقًا وجذابًا وذا حضور فأنت ببساطة تستطيع ذلك بلا ماركات عالمية وبلا سيارة آخر موديل أو موبايل آخر صيحة أو عرس يتحدث عنه القاصي والداني أو اقتناء أثاث بالسعر الفلاني، أو أو… ولكن نظرة إلى واقعنا اليوم نجد أن آفة المظاهر والتفاخر والماديات ضاربة في العمق الاجتماعي وعلى معظم الأصعدة لا بل أصبحت جزء من ثقافتنا ومن ضمن قيم واقعنا، وتتحكم في سلوكياتنا وتسيطر على معظم تفاصيل حياتنا اليومية والشواهد كثيرة، فأعراسنا وما فيها من صور البذخ الجنوني لا توصفه كلمات، ومناسبات أيام الميلاد التي تنفق فيها الأموال ما يكفي مؤونة عائلة شهريًا أو ربما أكثر، وشراء السيارات آخر موديل والعقارات بالدين، والسفر خارج البلاد بالقروض، وعن الملابس فحدث ولا حرج، فلا يلبس أحدهم أو إحداهن ولا يشتري لأبنائه إلا من الشركات العالمية حتى الأحاديث بين الأفراد لا تخلو من عبارات التباهي والتفاخر بما يلبس وما يقتني بل وبالصور الموثقة على مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت منصاتها ويسرت نشر كل شيء وفي كل وقت وبكل سهولة، كيف لا والكل يريد أن يشار إليه بالبنان، والكل يتسابق ويتنافس في الظهور ليثبت للغير أنه أبو الفوارس بما يمتلك ويقتني، كل ذلك على حساب الامكانات المادية الخانقة، كل ذلك من أجل الحصول على وضع اجتماعي مميز والذي قد يمنح صاحبه سرورًا مؤقتًا يعقبه حسرة وندم طول العمر.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم”. فيا ليتنا أتقنا الاهتمام بمظاهرنا الداخلية كما نتقن اهتمامنا بمظاهرنا الخارجية!
يقول المنفلوطي -رحمه الله تعالى-: “إنني لا أحفل يا سيدي بالصور والرسوم والأزياء والألوان، ولا يعنيني جمال الصورة وحسنها ولا برقشة الثياب ونمنمتها، وحسبي من الجمال أنني رجل شريف مستقيم ولا أكذب ولا أتلون ولا أداهن ولا أتملق، وأن نفسي نقية بيضاء غير ملوثة بأدران الرذائل والمفاسد، فلئن فاتني الوجه الجميل والثوب الملفوف والوسام اللامع والجوهر الساطع، فلم يفتني شرف المبدأ ولا عزة النفس ولا إباء الضيم ولا نقاء الضمير”.
فالإنسان بدينه وأخلاقه وقيمه وفقهه لدوره في الحياة لا بماركة ملابسه وما تملكه يداه، وهو لا يستمد شخصيته من خارج ذاته، وإنما من ثقته بربه أولًا، ثم من ثقته بنفسه بعدها، واذا كانت نفسه مدعومة بهذا الرصيد وهذه التعبئة، فأي إضافة ستضيفها المظاهر والشكليات على هذا الرصيد؟ وأما الذي يحرص على البريق والصخب، فهو بل شك يتسول ويستجدي مظاهر التعاظم الزائف من خارج نفسه حتى يملأ ذاك الفراغ المنتشر في ذاته وهو لا يدري أنه يزيدها فراغًا على فراغ ووهمًا على وهم حتى لو أوتي الدنيا وما فيها.
وإذا سادت ثقافة المظاهر والشكليات كما هو حاصل في مجتمعنا فلا نتفاجأ من نشء وجيل ينشأ مهزوزًا يستمد قوته وقيمته من المادة التي يمتلكها ومن الماركة التي يلبسها، وهو كذلك يقيّم الآخرين على أساسها لتكون النتيجة مجتمعًا هشًا سطحيًا، يزن الأمور بميزان مهترئ مختل اهتمامه بالظاهر على حساب الحاجيات الحياتية الأساسية، جيل ضعيف عاجز عن التعامل مع المشاكل والأزمات يضيع فيه الجوهر في معمعة الماديات ويصبح في الغالب آخر ما يفكر به.