أخبار عاجلةمقالاتومضات

لا تسمعوا للحمقى والمعاتيه

الشيخ كمال خطيب

من رعي الغنم إلى قيادة الأمم
إنها نفس المدرسة تعلم فيها وتخرّج منها كل أنبياء الله تعالى. إنها مدرسة رعي الغنم، قال رسول الله ﷺ: “ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة”. والقراريط هي جزء من الدينار في إشارة إلى ثمن بخس كان يتلقاه. وفي الحديث الآخر: “سُئل ﷺ: “أكنت ترعى الغنم؟ قال: نعم، وهل من نبيّ إلا رعاها؟”.

ومثل محمد ﷺ وقد قصّ ذلك عن نفسه، فإنه القرآن الذي نزل على محمد ﷺ يقصّ علينا قصة نبي آخر رعى الغنم، إنه موسى عليه السلام. وإذا كانت أجرة محمد ﷺ قراريط، فقد كانت أجرة موسى عليه السلام مقابل رعي الغنم ثماني سنوات وهو زواجه من بنت شعيب عليه السلام صاحب الغنم {قَالَ إِنِّىٓ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَٰتَيْنِ عَلَىٰٓ أَن تَأْجُرَنِى ثَمَٰنِىَ حِجَجٍۢ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ} آية 27 سورة القصص.

وإن لرعي الغنم دلالات ومعان تنعكس على شخصية الراعي كالخلوة والصبر والسعي على الرزق والتواضع والشفقة، كما قال الإمام النووي: “والحكمة في رعاية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم للغنم، ليأخذوا أنفسهم بالتواضع وتصفى قلوبهم بالخلوة وليترققوا بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالهداية والشفقة”، وهذا هو بيت القصيد وملخص هذا الإعداد المبكر برعي الغنم ليهيئهم ويعدهم لرعاية وقيادة الأمم.

لم يكن أحد من الخلائق يعلم أن ذلك الشاب الذي يرعى الغنم لشعيب عليه السلام فإنه عما قريب سيصبح كليم الله، ولا كان في حسبان أحد من العرب والعجم أن محمدًا ﷺ الذي راح يرعى الغنم لسادة قريش فليس أنه سيصبح سيد سادات قريش، بل سيصبح سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين صلوات ربي وسلامه عليه.

إنه موسى عليه السلام قال له ربه سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} آية 39 سورة طه. وإنه محمد ﷺ الذي قال له ربه سبحانه: {وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } آية 48 سورة الطور. فمن صُنع على عين الله وفي عين الله فإنه حتمًا قد أعدّ إعدادًا يليق بالمهمة التي سيقوم بها.

وإذا كان موسى ومحمد عليهما صلوات الله وسلامه نبييّن، فإن التاريخ يعرفنا عمن لم يكونوا كذلك، ولكن ولأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن فإنه الرحمن سبحانه هو الذي حوّل قلب عمر الذي كان يذيق المسلمين صنوف العذاب وأقساه، إلى أن يصبح كما قال الأستاذ أدهم شرقاوي: “فاروق الأمة وعلى يديه تهاوت أعظم امبراطوريتين في التاريخ فارس والروم. وخالد بن الوليد الذي قلب نصر المسلمين هزيمة يوم أحد، صار سيف الله المسلول. وعكرمة الذي أهدر النبي ﷺ دمه يوم فتح مكة، استشهد يوم اليرموك وهو قائد ميمنة جيش خالد. إن هذا الدين لمن صدق لا لمن سبق، وإن الإنسان بالصدق ليفوق أهل السبق”.

للذين تفرعنوا ستدوسكم الأقدام
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هيأ موسى ومحمدًا وسائر النبيين عليهم الصلاة والسلام لقيادة الأمم برعي الغنم ليترققوا لأممهم بالنصيحة والشفقة، فها هو الزمان يدور وإذا بأمة الإسلام خاصة والبشرية عامة يحكمها ويتسلط عليها قياصرة وأباطرة وطواغيت. هذا يسمي نفسه ملكًا، وهذا رئيسًا وذاك أميرًا، وكلهم إما تسلطوا على الحكم بالقوة والانقلاب، وإما تسلطوا على الحكم بالوراثة، وإذا بهؤلاء يتعاملون مع شعوبهم وكأنهم ليسوا إلا قطعان غنم تساق، وأن شعوبهم تعلف كما تعلف الأغنام فتسمّن ثم تساق إلى المجازر إن هي اعترضت أو رفعت رأسها ولسان حالها يقول للظالم يا ظالم.

إنها شعوبهم يتعاملون معها وفق منطق القطيع يضعون حولها كلاب الحراسة من الجيوش وأجهزة المخابرات والمباحث، ليس للحفاظ على الشعوب وحمايتها من الذئاب والأعداء، وإنما لتعدّ على الناس أنفاسهم، ولتحول حياة الشعوب جحيمًا لا يطاق حتى تضيق عليهم أوطانهم بما رحبت، فمن لم يكن مكانه السجن فإنها الهجرة واللجوء خارج الأوطان، ولا أصدق من توصيف هذا الحال من راعي الغنم ومربي الأمم محمد ﷺ الذي قال: “ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يُسمع بلاء أشد منه، حتى تضيق عنهم الأرض الرحبة وحتى تملأ الأرض جورًا وظلمًا، ولا يجد المؤمن ملجأ يلتجئ إليه من الظالم فيبعث الله عز وجل رجلًا من عترتي فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض”.

إن أصحاب الجلالة والفخامة اليوم وهم يمارسون الظلم يظنون أن سنن الله في الظالمين من الأكاسرة والفراعنة لا تصيبهم ولا تنزل بهم. ما أغباهم وهم لا يسمعون قول الله يقول لهم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} آية 42سورة إبراهيم. {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} آية 83 سورة هود. {فَحَشَرَ فَنَادَى *فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى*فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} آية 23-25 سورة النازعات.

وإذا كان عقاب الله ينتظرهم في الآخرة فإن عقاب شعوبهم لهم بالمرصاد. وصدق فيهم قول الشاعر أنس الدغيم ابن الشام لما قال:

قل للذين تفرعنوا وتألهوا ستدوسهم قدم الحياة الثائرة
في قمة الطغيان تولد ثورة وتعيد للمبنى المعاني الشاعرة
لا خير في أرض تباع وتشترى ما لم تقل للظلم إني كافرة
أي أنني أرفض الظلم وأكره وأكفر به.

ولكم لقيت أبا لهب
ما أصدق قول رسول الله ﷺ في وصف ما عليه الزمان الذي نحن فيه ومن تصدروا المشهد من الزعماء، لما قال ﷺ: “إن بين يدي الساعة سنوات خدّاعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”. وفي لفظ الإمام أحمد: “الفويسق يتكلم في أمر العامة”. وفي رواية: “الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة”.

إنهم السفهاء والفسقة والتافهون الذين يحكمون المسلمين ويتكلمون باسمهم، بينما هم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، وصدق فيهم وصف الشاعر الكبير محمد إقبال لما قال:

طوّفت في أرض الأعا جم ثم في أرض العرب
لم ألقى فيها المصطفى ولكم لقيت أبا لهب

لا بل إن أبا لهب وأبا جهل ظلّ فيهما بقايا رجولة رغم كفرهما، بينما يظن هؤلاء وهم يضيفون على أنفسهم هذه الألقاب والنياشين سواء بالقول أصحاب الجلالة أو أصحاب الفخامة، فإن هذا لن يغير من حقيقتهم ولم يجمّل صورتهم القبيحة عند الله عز وجل وعند الناس. ولقد قال الإمام الطرطوشي في كتابه سراج الملوك:

ولو لبس الحمار ثياب خزّ لقال الناس يا لك من حمار

فلو صنعوا بردعة الحمار من أجود الحرير فلن يغيّر من حقيقة أنه في أعين الناس كان حمارًا وما زال حمارًا. وعليه فإن الألقاب والمصطلحات أمثال أمير المؤمنين وخادم الحرمين الشريفين والرئيس المؤمن لن تغيّر من حقيقة أنهم طواغيت وظلمة وجبابرة.

على الدنيا السلام
قال الأستاذ أدهم شرقاوي في كتابه الرائع “رسائل من القرآن”: “إن دنيا يباع فيها يوسف ويُكذّب فيها نوح، ويُرمى فيها للنار إبراهيم، ويتهم فيها بالسحر موسى، ويقدم فيها مهرًا لبغي رأس زكريا، ويرجم فيها بالحجارة محمد رسول الله ﷺ، هذه دنيا تنتظر منها أن تربت على كتفك أنت؟”.

وإن دنيا يصبح فيها السيسي رئيسًا بينما يقبع في السجن محمد مرسي ثم يموت مرضًا وكمدًا، وإن دنيا يصبح فيها محمد بن سلمان ولي عهد ولعله قريبًا سيصبح خادم الحرمين الشريفين، بينما علماء وكرام بلاد الحرمين في السجون أو المنافي، وإن دنيا يصبح فيها محمد بن زايد رئيسًا وأبو مازن زعيمًا في أرض الإسراء والمعراج هذه دنيا لن تبتسم لك ولن تربت على كتفك، وعلى هذه الدنيا السلام بل بئست الدنيا هذه.

كما ورد في قصة تلك القرية التي عمّ فيها الجهل واللامبالاة حتى أن أهلها قد قبلوا أن يكون إمام مسجد القرية رجلًا ماجنًا كان اسمه بكري مصطفى. وذات يوم قد توفي أحد سكان القرية فنادوا الإمام بكري مصطفى ليصلي عليه، لكنه بعد الصلاة انحنى عند رأس الميت وهمس في أذنه. استغرب الناس كيف للإمام أن يهمس في أذن ميت، وماذا عساه قال له؟ فلما سألوه قال: قلت له إذا سألك أهل القبور عن أحوال الدنيا فقل لهم على الدنيا السلام بكري مصطفى صار إمام.

إيه والله على الدنيا ألف سلام لما يقبع العلماء والدعاة وأصحاب الفضل في الزنازين والسجون، ويصبح الماجن العربيد تركي آل الشيخ يصول ويجول في بلاد الحرمين وتحت تصرفه الأموال بلا عدد ولا حساب. إنه على الدنيا السلام لما يقبع خيرة رجالات مصر وقاماتها العلمية والدينية والأكاديمية والوطنية في زنازين السيسي، بينما يتصدر المشهد المهرجون والرقّاصون والمنافقون فعلى الدنيا السلام وبئست الدنيا هذه.

لا تسمعوا للحمقى المعاتيه
إن ما تمر به أمتنا في هذه المرحلة هي من السنوات العجاف والشداد والتي حتمًا ستأتي من بعدها سنوات فيها يغاث الناس وفيها يعصرون. نعم، إنها ظاهرة مرضية ستتعافى الأمة منها، وإنها كبوة ستنهض بعدها، وإذا ظنّ أعداء الأمة من خارجها وعملاؤهم الطواغيت والجبابرة من داخلها، أن أمتنا قد ماتت وشيعت إلى مثواها الأخير، فإنهم الأغبياء الذين لا يقرؤون التاريخ فيه سيجدون أن أمتنا قد مرّت بمثل هذه الظروف وأصعب منها، لكنها سرعان ما تعافت ونهضت ونفضت عنها غبار السنين والذلّ، ومن تمادوا عليها ومن تطاولوا عليها فإنه هم الذين ألقي بهم إلى مزابل التاريخ.

مخطئون وحمقى وأغبياء بل ومعتوهون من يظنون أن بلاد المسلمين ستظلّ مشاعًا لهم وأن أبناء المسلمين عبيد لهم وأن موارد المسلمين ستظلّ تصب في جيوبهم وبنوكهم تتنعم بها شعوبهم، وأن قدم أمية بن خلف ستظلّ على عنق بلال إلى الأبد، فلا وألف لا ومليون لا، كما قال الشاعر المسلم التركي المرحوم محمد عاكف:

قد عشت حرًا منذ كان الكون حرًا لا أزال
عجبًا لمعتوه يصدق أن تقيدني سلاسل أو حبال
أنا مثل سيلٍ هادر دفع السدود إلى نهايات الزوال
دومًا أفيض فأملأ الأرجاء أقتحم المحال

فلا تصدقوا الحمقى والمعاتيه واليائسين، وصدقوا الواثقين أصحاب اليقين بوعد الله رب العالمين {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} آية 8 سورة الصف. وبشارة رسوله ﷺ: “واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا”.

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى