أخبار وتقاريردين ودنياومضات

عام مضى..

ليلى غليون

تدور رحى الزمان تطحن الأيام والشهور والسنين طحنا، ولا ندري كيف تمر هذه القافلة الزمنية ربما لسرعتها الفائقة، ربما هي الغفلة التي تلفنا، ربما هو نزع البركة من كل شيء والذي أصبح سمة هذا الزمان، فلا تكاد الشمس تشرق حتى تلوح مودعة، ولا يكاد الأسبوع يبتدئ حتى تعلن نهايته، ولا يكاد الشهر يأتي حتى يمضي للأفول، وكذا السنون تتوالى وتجري كلمح البصر أو هي أقرب، لا يكاد يشعر بها أحد تمر بنا وكأنها يوم طلعت فيه الشمس من مشرقها ثم ولت إلى مغربها.

تدور عجلة الزمان ولا تتوقف إلا أن يشاء الله، تمر بنا عبر محطات عديدة من أعمارنا ومن حياتنا، منها المفرحة ومنها لا تفتأ أشواكها تدمي القلوب ألما ولوعة وحزنا، تجري وتجري وقد امتلأت خزائننا بما لنا وما علينا، فها هو الستار يسدل عن العام الهجري 1445،عام من أعمارنا يتهيأ للرحيل، سطرنا فيه من الحسنات ما شاء الله لنا أن نسطر وسطرنا فيه من السيئات ما شاء الله لنا ذلك، فمن منا الفائز لنقدم له التهاني ومن منا الخاسر ليتلقى التعازي؟

قال أحد السلف: “كيف يفرح في هذه الدنيا.. من يومُه يهدم شهرَه، وشهرُه يهدم سنتَه، وسنتُه تهدم عُمُرَه… كيف يفرح مَن عمرُه يقوده إلى أجله، وحياتُه تقوده إلى مماته”.

تقارب الزمان… هذه حقيقة لا تخفى على أحد، يكاد الجميع يدرك نزع البركة من الوقت ويكاد الكل يذهل وتغشاه سحب العجب من سرعة وتقالب الزمان، أعوام تتلوها أعوام تتسارع في هدم أعمارنا وتقريب آجالنا، ولكنها حجب الغفلة والإعراض والتسويف وطول الأمل أعمت بصائر الكثير وحجبت عنهم الرؤيا والنور ليغوصوا في مستنقعات الخطايا سادرين في غيهم وكأنهم مخلدون في هذه الدنيا.

وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب في الرأس نازل
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأعمارنا تطوى وهن مراحل
فارحل من الدنيا بزاد من التقوى فعمرك أيام وهن قلائل

على بعد خطوة نقف اليوم مودعين ومستقبلين، مودعين عامًا هجريًا بكل أشيائه، ومستقبلين آخر جديدًا لا ندري كنهه، يباعدنا عن هذه الحياة الدنيا ويقربنا إلى الدار الآخرة.

قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: “ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحد منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، إن العاقل من اتعظ بأمسه واجتهد في يومه واستعد لغده، فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”.

عام كامل بطوله وعرضه أزف للرحيل طوى بساطه ولملم أغراضه وجر معه ذكرياته وأحداثه وانتهى بكل ما فيه، مضى بكل لحظاته ليبدأ بلحظات لا نعرف خفاياها، ثلاثمائة وبضع وخمسين يومًا مرت كما الطيف يمر سريعًا وكما يمر الخاطر في النفس، أوقات كثيرة وأزمان مديدة كيف يا ترى قضيناها؟ وفي أي شيء أمضيناها؟

فكم من أحوال تقلبت وكم من أشياء تبدلت؟ كم من أحداث مرت كانت أدعى أن نعتبر ونتبصر ونقترب ونعود إلى المولى عز وجل تائبين. وكم يا ترى من أوقات أهدرت وفتكت بأصحابها كما يفتك السيف؟ كم من صلوات ضيعت وواجبات تركت وأهملت ومعاص ارتكبت وحدود لله انتهكت؟ كم من دماء سالت ونفوس بغير حق ازهقت؟

عام مضى وارتحل إلى حال سبيله وانزوى ولن نلتقيه ثانية إلا يوم القيامة ليكون شاهدًا لنا أو علينا. مضى بأيامه وساعاته ودقائقه وثوانيه فماذا قدمنا وماذا فعلنا؟ أعوام تنقضي الواحد تلو الآخر حتى ينقضي العمر كله في غمضة عين أو لمحة بصر، فهل من وقفة لمحاسبة النفس ومساءلتها؟ وإن كان سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم لم يكونوا ينتظرون أو يؤجلون محاسبة النفس حتى ينقضي العام كما يفعل أصحاب التجارة وأرباب المال حيث يجعلون من آخر كل عام موعدًا لتصفية حساباتهم وجرد مدخراتهم ليكونوا مطلعين على كل ما مر بهم من أرباح وخسائر خلال العام ليتعلموا ويستفيدوا من تجاربهم، بل كانوا يحاسبون أنفسهم في كل لحظة وفي كل حين، يسارعون ويبادرون بالعودة فورا إلى الله عز وجل بتوبة نصوح تذهب سيئاتهم وتبيض صحائفهم لا يؤجلون ولا يسوفون، لأنهم لم يكونوا يعملون لدنياهم مثلنا وكأننا نعيش أبدًا، فالحياة في نظرهم لم تكن سوى دقائق وثوان فكانت أعمالهم لآخرتهم كأنهم سيموتون غدًا.

أليس تأخير محاسبة النفس حتى ينقضي عام بطوله وعرضه إلا من باب الغفلة وطول الأمل؟ وكيف للإنسان أن يحصي ما قدمت يداه من ذنوب وسيئات خلال عام كامل؟ حتى لو أذنب في كل يوم ذنبًا واحدًا فقط، فكيف له أن يتذكر أكثر من ثلاثمئة وستين ذنبًا ليتوب بعدها إلى الله عز وجل؟!

فماذا لو خلى كل واحد منا بنفسه يحاسبها حسابًا عسيرًا عن كل إساءة وتقصير، يسائلها كيف حالها مع الله عز وجل بطاعته واجتناب نواهيه، كيف حالها مع صلاتها؟ مع كتاب ربها وسائر العبادات ؟ كيف حالها مع نصرة دينها؟ كيف حالها مع إخوانها، بل مع كل الناس بالتخلق بخلق الاسلام وحسن معاملتهم؟

يقول الحسن رحمه الله تعالى: “إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قدمًا لا يعاتب نفسه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى