وجهًا لوجه.. لن تظل صرختي مكبوتة يا أمي
ليلى غليون
إنّها صرخة مكبوتة في صدري، وهذا الوجوم الدائم على وجهي سيجعلك يومًا تنتبهين لي وتسمعينها ولو لم أعلنها صراحة.
أمي، أبحث عنك دومًا فلا أجدك رغم أنك قريبة جدًا مني، والمسافات التي تفصل بيننا لا تتعدى السنتيمترات، أبحث عنك، نعم أبحث عنك، فأين أنت مني؟
بعيدة رغم قربك، غائبة رغم حضورك، غريبة رغم أني جزء منك، مشغولة في كل شيء إلا في ابنتك فما لها من وقتك من نصيب، هل تعلمين كم أنا بحاجة إليك، لحنانك، لتوجيهاتك، لبعض وقتك حتى ولو كانت دقائق معدودة، لأجلس معك وأتحدث إليك وأفضي إليك بمكنونات صدري التي تكاد تخنقني وتعبث في أفكاري وتربك أحوالي.
ألا تلاحظين يا أمي التغييرات النفسية والجسدية التي طرأت عليّ فجأة؟ هناك أمواج عاتية من الأفكار تتلاطم في بحار عقلي وتتخابط في نفسي لا أستطيع فك رموزها، فأبحث عنك يا أمي لعلي أجد عندك المرسى الآمن لسفني الهائجة المضطربة قبل أن تغرقها أمواج الحيرة، أبحث عنك لتحتويني لعلي أجد فيك صديقتي الودود التي أبوح لها بأسراري ومكنونات ذاتي، فجعبتي مليئة بالتساؤلات وعلامات الاستفهام حول أمور شتى طرأت عليّ فجأة وأريد فهمها، ولكني أراك دائمة الانشغال في أعمال لا تنتهي، من عمل خارج البيت، إلى أعمال لا تنتهي داخله، من طبخ وكنس وتنظيف والقائمة طويلة، أو ربما مع صاحباتك على حسابك على الفيسبوك، أو بالحديث مع المجموعة على الواتس أب، أو بالزيارات والعلاقات الاجتماعية، أوقاتك حتى الدقيقة الأخيرة مستهلكة في إنجاز محتويات تلك القائمة، وأمّا أنا فيبدو أني خارج حدود اهتمامك، أو أني لست ضمن تلك القائمة، والدليل هذه المساحات الشاسعة التي امتدت بيني وبينك، وعدم وجود أي جسر للتواصل والمصارحة بيني وبينك، فمع من أجلس يا أمي ومع من أتصارح وأفتح مغاليق قلبي، خاصة أني أتعرض لتغيرات أبحث لها عن توضيحات ولكني لا أجرؤ على سؤالك أو استيضاح الأمر منك لأني ببساطة ما تعودت على مصارحتك أو بالأحرى لم تعوديني أنت على ذلك، نعم لم أجرؤ على مصارحتك وذلك لسببين:
أولهما، لأنني لا أجد الوقت ولا الفرصة المتاحة لمحادثتك، بالإضافة إلى أنك ربما تتهمينني بالوقاحة وقلة الأدب فيكون عقابي (علقة سخنة) منك أو من أبي (الذي لا يختلف عنك بتعامله معي) لأني بنظركما لا زلت صغيرة وممنوع، بل يحظر عليّ أن أتفوه بالسؤال عن مثل هذه المواضيع. وثانيهما، أنني ببساطة ما شعرت يومًا أن هناك قناة للمصارحة بيني وبينك وما أشعرتني يوما أنك الوعاء الذي يمكنني ان أفرغ فيه همومي ومتاعبي.
فعذرًا أمي لو خرجت للبحث عن إجابات لتساؤلات تؤرقني وتقض مضجعي، عذرًا لو خرجت أبحث عن صديقة أو… أحط عندها أعباء نفسي، عذرًا لو أبحرت في مواقع التواصل بحثًا عن إجابات لتساؤلاتي، وأنت تعرفين حق المعرفة حقيقة هذا العالم الذي أبحث فيه، فأنا أريد أن أستريح ومن حقي أن أستريح، ولكن من يعلم ومن يدري؟ فهل فعلا سأستريح عندها أم يا ترى سأزداد حيرة، شقاء وتعبًا؟ هل فعلًا ستزول حيرتي أم تكون سببًا في زلتي وكبوتي؟ عندها لن ترحميني يا أمي ولن يغفر لي أبي، ولن يرحمني هذا المجتمع الذي سيتلذذ بأكل لحمي ويصب فوق رأسي الاتهامات والأقاويل والتي ستنالين أنت أيضا نصيبًا منها، وفوق كل ذلك، سؤالك عن هذه الأمانة التي استأمنك عليها الله رب العالمين أحفظت أم ضيعت، عندها ستعضين أصابع الندم حيث لا ينفع الندم، أو تلطمين على الخدود حيث لا يجدي اللطم، وتضربين كفًا بكف بلا جدوى، عندها ربما ستنتفضين وتتنبهين وستسمعين صرختي التي ما عادت مكبوتة، ولكن وللأسف بعد فوات الأوان.
لا تلوميني يا ابنتي
عجبًا منك يا ابنتي، ما هذا الكلام الذي أسمعه منك، كيف تلومينني وأنت أدرى الناس بأحوالي وبمعاناتي لأجلك أنت ولأجل إخوتك، إن عباراتك وكلماتك التي أسمعها منك تكاد تقتلني وتجرحني، فهل أنا كذلك وأنا التي أواصل الليل بالنهار وأعمل كالنحلة بلا كلل ولا ملل لأزرع السعادة في قلبك وقلب إخوتك وأنت شاهدة على ذلك، ترين عبثهم والفوضى التي يسببونها في البيت وكلما نظفت وأصلحت ما أفسدوه يعود البيت للفوضى ثانية لأعيد نفس العمل من جديد، وعندما تذهبون إلى مدارسكم ولا يعلم حال البيت الذي تركتموه إلا الله، فغرفكم تسرح وتمرح فيها الفوضى، فهذه ملابس نومكم منتشرة في كل زاوية من زوايا البيت، وكتبكم مبعثرة على رفوف المكتبة، وسفرة الإفطار تنتظر من ينظفها، وغيرها الكثير الكثير من الأعمال التي تنتظرني وأنت شاهدة عليها، فأبدأ يومي بسباق مع الزمن حتى أنهي كل هذه المسؤوليات قبل ذهابي لعملي الذي يستنزف مني الكثير من الصحة والأعصاب لمساعدة أبيك في نفقات البيت التي لا تنتهي، لأعود وأنا أيضًا أسابق الزمن وكأني في معركة معه، أعود قبل عودتكم من المدرسة لأبدأ بتحضير الطعام، وليتكم تتفقون على طعام واحد وطبخة واحدة، فأنت تفضلين كذا، وأخوك يفضل طعامًا آخر، وأختك لها رغبة أخرى، وإذا لم ألب لكل واحد رغبته يرفض الأكل، أو يتشاجر مع إخوته لتقوم معركة في البيت لا أدري كيف أخمدها لتحرقوا أعصابي وجسدي المنهك أصلًا والذي زدتم في إنهاكه وهو يلهث خلفكم لفض الخلاف ووقف اطلاق النار بينكم، ثم بعد ذلك يأتي دور أبيك الذي يعود من عمله منهك القوى ثائر الأعصاب لا يتحمل من أحد كلمة واحدة فأبدأ بمسايرته وملاطفته (وأنا التي بحاجة لكل المسايرة والملاطفة ومراعاة الشعور) حتى تهدأ نفسيته وتخف عنه علامات التعب، وعندما أشكوكم إليه يقول لي ببرود أعصاب: (أولادك مش عارفة تربيهم) فيحرق جوابه ما تبقى لي من أعصاب التي حرقتم أنتم معظمها خلال النهار، فما أن يأتي المساء حتي أرمي بجسدي الهزيل الذي يئن من وخزات التعب والإرهاق على الفراش وقد أسرني النوم وأخذني في قبضته لأصحو مع الفجر استعدادًا ليوم مزدحم بالمسؤوليات لأبدأ يومي كالطاحونة من جديد ولا جديد.
فالعجب كل العجب منك يا ابنتي، كيف لا تعذرينني؟ ومن غيرك يعذرني ويقدر ظروفي؟!
ولقد صدق المثل القائل: (أولاد آخر زمن) مهما فعلت لأجلهم لن يرضوا ولن يعجبهم شيء.