وكان أبوهما صالحًا
ليلى غليون
أبناؤنا قرة عيوننا ورياحين تعبق بالمسك على ضفاف قلوبنا، هم أكبادنا بل أرواحنا التي تمشي على الأرض، نخشى عليهم حتى من النسيم في اعتلاله يداعب وجناتهم، نشقى ليسعدوا، ونجوع ليشبعوا، ونحرم أنفسنا من نعيم الدنيا ونقدم لهم ما نقدر بل فوق ما نقدر ولا نريد سوى فرحة نراها على وجوههم ولا تغيب عنهم، نحبهم بلا حدود ولا شروط وبلا مقابل، تحركنا بل تملكنا تجاههم عاطفة فطرية لا نملك حيالها أمرًا، وبكل ما أوتينا من طاقة وإمكانيات نسعى لتأمين حياتهم ومستقبلهم حتى لا ينقصهم شيء، كيف لا وهم مشروع حياة ومشروع أمل ومستقبل بالنسبة لنا، ومسؤولية وأمانة معلقة في أعناقنا سنحاسب عليها إن فرطنا فيها وسنؤجر عليها إن حفظناها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ أم ضيع”.
نعم، إننا معشر الآباء والأمهات نسترخص كل غال وكل نفيس لأجل أبنائنا ونأخذ بكل الأسباب الظاهرة من أجل إسعادهم من مأكل ومشرب ومسكن وهدايا وتعليم ورحلات وإشباعهم بالمشاعر الحانية داعين الله تعالى في كل وقت وحين أن يحفظهم ويجعلهم أبناء بررة ناجحين صالحين، ولكن في غمرة هذا كله قد ننسى بعض الحقائق الإيمانية التي بموجبها يتحقق حفظ الله تعالى للأبناء، فتوفير الأمور المادية لا يبرئ ذمة الأهل في التربية لتكون الثمرة طيبة من أبناء صالحين، لأن هذه الأسباب التي نحرص عليها ليست هي الضمان الأكيد ولا الأساس المتين لحفظ وتأمين مستقبل الأبناء دنيا وآخرة، بل ربما في الأحيان قد تكون وبالًا عليهم.
لقد أرسى القرآن الكريم قاعدة عظيمة لحفظ الأبناء، وقدَّم وصفة سحرية لصلاحهم حتى بعد موت آبائهم، ولفت بآياته النورانية إلى أن استقامة الأبناء وصلاحهم، إنما هو ثمرة الأعمال الصالحة وتكون أول ما تتكون منكم أنتم أيها الآباء والأمهات، من تقواكم وحفظكم لله عز وجل في أنفسكم، من خشيتكم لله سبحانه ومراقبته في السر والعلن، من إقبالكم على الطاعات وإدباركم عن المحرمات، من حركاتكم، من سكناتكم، من أقوالكم من كل أفعالكم.
يقول الله سبحانه وتعالى: “وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدًا”. فضمان الحفظ والأمان لأبنائكم أيها الآباء والأمهات كما أشارت الآية الكريمة هو ثمرة من ثمرات تقوى الله عز وجل والقول السديد.
قال المفسرون في هذه الآية: “فيه إرشاد للآباء الذين يخشون ترك ذرية ضعاف أن يتقوا الله في سائر شؤونهم حتى تُحفظ أبناؤهم وتغاث بالعناية منه تعالى، وفيه تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع”.
فصلاح الأبناء مرتبط بصلاح الآباء وذلك بلزومهم التقوى والقول السديد، فإذا فقد الآباء مقتضيات الصلاح في أنفسهم فكيف لهم أن يُنشئوا أبناءً صالحين وكيف لفاقد الشيء أن يعطيه؟! وإذا فسد الأصل فكيف يستقيم الفرع (ولا يستقيم الظل والعود أعوج).
فقد يُحرم الأب صلاح أبنائه بسبب كثرة الذنوب أو بذنب داوم عليه، بكسب حرام أو مظلمة لأحد عنده أو عقوق والدين وغيرها من الذنوب، وعندما يجد لذلك الأثر السيء على سلوك أبنائه وأفعالهم يضرب أخماسًا بأسداس وقد نهشته الحسرة على واقع أبنائه متسائلًا باكيًا لماذا؟ ما قصرت معهم بشيء، لقد وفرت لهم كل ما يتمنون، ولكنه يغفل بأنه قد يكون هو السبب في فشل هذا المشروع.
نعم لقد وفرت لهم من نعيم الدنيا ما يسيل له اللعاب، ولكنك غفلت أن صلاحهم وتربيتهم بصورة حسنة وصحيحة ليست فقط بهذه الأمور المادية، ولا بتعليمهم فقط في أرقى المعاهد والجامعات، ولا باقتنائهم لأحدث الهواتف الخلوية، ولا بتفسحهم خارج البلاد كل عام أو أقل، فبالإضافة لذلك كله، بل قبل ذلك كله، نسيت أن هناك أساسًا يقوم عليه البناء لا يمكن أن يقوم بدونه، غفلت أن صلاحك هو الأساس وصلاح أبنائك هو البناء، فإذا اعوج الأساس اعوج البناء ثم لا يلبث أن ينهار.
يقول أحد التابعين: “إني لأذنب الذنب فأرى أثر ذلك الذنب على ولدي”. أي أنه كان يجد أثرًا سيئًا لذنبه على سلوكيات ولده.
لقد فقه الصالحون هذا المعنى فجدوا واجتهدوا لمضاعفة أعمالهم الصالحة رجاء وأملًا بالله الكريم أن يحفظ لهم أبناءهم، فهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، يروي أنه إذا أراد أن يصلي قيام الليل نظر إلى ابنه وقال: إني لأزيد في صلاتي من أجلك يا بني ثم يتلو قوله تعالى: “وكان أبوهما صالحًا”. وهذه الآية الكريمة ذكرت في سورة الكهف وتحدثت عن الغلامين اليتيمين الذين حفظ الله تعالى لهما كنزهما بصلاح أبيهما، ويقال إن بين هذين الغلامين وبين أبيهما الصالح ستة آباء.
كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عندما كان يصلي في الليل وابنه الصغير نائم ينظر إليه فيقول: “من أجلك يا بني ويتلو وهو يبكي قوله تعالى: “وكان أبوهما صالحًا”.
(وكان أبوهما صالحًا). إنها قاعدة تربوية لكل أب وأم يبغيان لأبنائهما الحفظ والاستقامة، وهل يوجد أب وأم لا يبغيان ذلك؟! وإن كانت هناك بعض الاستثناءات والحالات الموجعة لآباء وأمهات منزوعي الصلاح والصلاحية تجاه أبنائهم فأهملوهم وتركوهم للضياع ينهش حاضرهم ومستقبلهم، إلا أن القاعدة تبقى هي الأصل، فنحن نتعبد الله تعالى بصلاحنا وحسن تربيتنا لأنفسنا أولًا، وإن أعظم مشروع نستثمره في حياتنا بعد عبادتنا لله تعالى هم أبناؤنا، وإن أعظم ميراث نورثه لهم هو ميراث الصلاح، وإن الثروة الحقيقية التي يجب أن نوفرها حتى يحفظهم الله تعالى ببركة هذا الصلاح ويكفلهم برعايته ولطفه هي التربية الحسنة، فتلك هي الحماية الحقيقية والأمان.
قال ابن المنكدر رحمه الله: “إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر”.