دوافع استحضار الخطاب الديني في الحرب على غزة
ساهر غزاوي
منذ الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، استحضرت منظومة الحكم الإسرائيلية الخطاب الديني في حرب الإبادة التي تشنّها على قطاع غزة لتوظيف البُعد الديني التوراتي من أجل الحشد والتعبئة في صفوف الإسرائيليين، للانخراط في القتال بالمعارك في غزة. وبدا الخطاب الديني المصاحب للعدوان الإسرائيلي على غزة، خطاب منظومة الحكم السائدة والمهيمنة داخل المجتمع الإسرائيلي، والتي تضم نخبًا سياسية وعسكرية ودينية.
تاريخيًا، يُعتبر الخطاب الديني من أهم مرتكزات الخطاب الدعائي الإسرائيلي، بل إن الدولة الإسرائيلية التي أسستها الحركة الصهيونية وأرادت تسويقها كدولة “يهودية ديمقراطية”، أسست نفسها على فكرة إعلامية استندت إلى التفسير الحديث للكتب الدينية من توراة وإنجيل.
لقد صاحب الخطاب الديني منظومة الحكم الإسرائيلية في حروبها ضد العرب والفلسطينيين منذ العام 1948. وقد لازم البُعد الديني التلمودي التوراتي البُعد السياسي والهيمنة السيادية في هذه الحروب. وهناك أدلة كثيرة منها؛ عملية النفخ في البوق التي قام بها مؤسس حاخامية الجيش الإسرائيلي شلومو غورين لأول مرة عند احتلال سيناء عام 1956، وكذلك جرى النفخ في البوق بمرافقة الجيش الذي احتل المسجد الأقصى عام 1967 ومن ثمّ صار النفخ بشكل يومي عند حائط البراق، ليعلن عن عودة الطقوس التوراتية إلى ساحة البراق بعد انقطاع لفترة طويلة.
في هذا السياق، يؤكد الدكتور مهند مصطفى في دراسة سابقة له حول حضور الدين في الحرب على غزة (نشرت عام 2014)، أن الحروب الأخيرة على غزة، وخاصة في حرب “الرصاص المصبوب” عام 2008-2009، و”الجرف الصامد” عام 2014، لم يُحصر أو ينحصر دور الدين في إطاره الوظيفي، بل تعداه ليقدم مسوغات ثيولوجية (علم اللاهوت) وأخلاقية للحرب، وزيادة دافعية الجنود للقتال من خلال تأويلات دينية للصراع. وتكثف حضور الدين في الحرب الأخيرة نتيجة خصخصة خدماته داخل الجيش، فلم تكن المؤسسة الدينية العسكرية أو الضباط المتدينون وكلاء الاستحضار والتأويلات الدينية في الجيش حصرًا، بل شاركت مؤسسات ومنظمات غير رسمية في هذه المهمة، وقامت بدور هام في هذا السياق خلال الحرب على غزة، وهو ما يمكن تسميته خصخصة الدين في المؤسسة العسكرية.
وفي العودة إلى الحرب الحالية، ففي خطاب متلفز يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، استحضر نتنياهو ”نبوءة إشعياء” في إطار سعيه لمواصلة حرب الإبادة على قطاع غزة، وقال “نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام”. مضيفًا “سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببًا في تكريم شعبكم، سنقاتل معًا وسنحقق النصر”. كما استحضر نتنياهو نصًا دينيًا آخر، حين قال “يجب أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس. ونحن نتذكر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل”.
تحيل كلمة العماليق إلى قبيلة من البدو الرحل سكنوا شبه جزيرة سيناء وجنوبي فلسطين، وصارت تعني في الثقافة اليهودية “ذروة الشر الجسدي والروحي”. ويجد ذلك من يقرأ في سفر صموئيل الأول “اذهب وحارب عماليق، اقض عليهم قضاءً تامًا، هم وكل ما لهم. لا تشفق عليهم، اقتل جميع الرِجال والنساء والأطفال والرضع، واقتل ثيرانهم وغنمهم وجمالهم وحميرهم، وحاربهم حتى يَفنوا”. لذا، فإن استحضار هذا النص الديني يشير إلى استخدام القوة الطاغية في الانتقام الشرس من قوى المقاومة، بتنفيذ سياسات العقاب الجماعي ضد المدنيين، وسفك الدماء وتدمير المنازل على رؤوس أصحابها، وإعادة الحياة قرونا إلى الوراء. ومن مضامين هذا المصطلح أيضًا استخدام سياسة الحصار والإذلال، والقضاء على مصادر الرزق، ومنع حرية الحركة ومنع الخدمات الصحية، وشن عمليات الاعتقال والتعذيب، في محاولة من جيش الاحتلال لهزيمة الفلسطيني نفسيًا وإشعاره بالعجز ليستسلم للأمر الواقع.
يهدف نتنياهو أيضًا إلى ربط الذهنية اليهودية والمسيحية بأن الفلسطينيين هم العماليق، وبأن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة وضد فلسطين بشكل عام هو تنفيذ لإرادة الرب في العهد القديم، كما يلمح إلى أن الغرض العسكري سيكون إبادة ممثلي العماليق في فلسطين حاليًا حسب روايته اللاهوتية، قبل أن ينتقل إلى استحضار فقرات من “أسفار الأنبياء”، مشيرًا إلى أن “إسرائيل” تمثل النور وحماس تمثل الظلام”.
وتحدث الحاخام اليهودي الأمريكي مانيس فريدمان صراحة عن أن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية إذ يقول: “دمر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم”. وأن تلك هي قيم التوراة التي ستجعل الإسرائيليين “النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب الأخلاقيات المدمرة التي اخترعها الإنسان”، ويؤكد أنها الطريقة التي تشكل “الرادع الوحيد والحقيقي للتخلص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة”.
وتعبر تصريحات الوزير عميحاي إلياهو (ابن شموئيل إلياهو، الحاخام الأكبر لمدينة صفد)، التي دعا فيها إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة وإعادة بناء المستوطنات فيه، عن تيار كبير متغلغل داخل المجتمع الإسرائيلي، ويحظى بنفوذ داخل دوائر صنع القرار السياسي. ويبرر هذا التيار -الذي تقوده التعاليم التوراتية المحرفة- العنف ضد من يسميهم “الأغيار” من غير اليهود وطردهم من (أرض إسرائيل) أو قتلهم، فليس أمام هؤلاء الأغيار غير الإبادة أو التهجير، وفق معتقداتهم.
كل ذلك يشير إلى أن منظومة الحكم الإسرائيلية لجأت إلى هذه المقولات التوراتية لتسويغ الحرب على غزة واعتبارها “حربًا أخلاقية”، كما أن توظيف الخطاب الديني التحريضي في تقديم الرواية اللاهوتية التوراتية إلى العالم لتبرير الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ليس جديدًا، فالقادة الإسرائيليون يستندون الى نصوصهم الدينية (المُحرفة) والتي تؤكد على ارتكاب المذابح والاجرام لإعطاء مزيدًا من الحماسة لجنودهم لتنفيذ أهدافهم. كما يهدف نتنياهو التأكيد على أن وجه إسرائيل تغير من دولة صهيونية إلى دولة يهودية تتخذ من شريعة التوراة أساسًا للحكم ولتنفيذ القرار السياسي والعسكري. وبالتالي يسعى نتنياهو لإكساب الحرب ضد غزة وحماس الطابع الديني أملًا في أن ذلك قد يحفز المجتمع الديني في إسرائيل على الاشتراك في الحرب والموافقة على الخدمة العسكرية في المستقبل.