أقترح نقل مبنى هيئة الأمم المتحدة إلى جنوب أفريقيا
الشيخ رائد صلاح
في الوقت الذي يخبرنا فيه تاريخ أمريكا أنها قامت على حساب إبادة شعب اسمه الهنود الحمر، فإن تاريخ جنوب أفريقيا يخبرنا أنها قامت كثمرة لجهود حركة تحرر قادها نلسون مانديلا ثم بعد أن صبرت هذه الحركة على التضحيات لعشرات السنوات نجحت بإسقاط نظام الفصل العنصري الذي كان قد خيّم بظلمه وظلامه على جنوب أفريقيا، وهكذا استعادت هذه الدولة سيادتها واحتفلت باستقلالها بجدارة!!، وكم هو الفرق كبير بين دولة قامت على حساب إبادة شعب آخر، ودولة قامت بعد صبر جميل على تضحيات إصرارها على التحرر، ولو سألنا أي عاقل في الأرض: أيّهما تستحق أن يقوم فيها مبنى هيئة الأمم المتحدة؟! هل هي أمريكا أم جنوب أفريقيا؟! لقال فورًا بلا تلعثم ولا تلكؤ: جنوب أفريقيا.
وفي الوقت الذي شهد فيه جزء طويل من تاريخ أمريكا استعباد شعوب قارة كاملة اسمها أفريقيا، وبيعهم رقيقًا بالمزاد العلني في أسواق أمريكا، ثمَّ امتهانهم كالحيوانات وأشد، واستباحة إنسانيتهم كأنهم لا شيء، فإنَّ جزءًا طويلًا من تاريخ جنوب أفريقيا شهد مرحلة كريمة رفضت فيها هذه الدولة أن يستبيح الرجل الأبيض الأوروبي استرقاق شعبها، فحملت مشعل الحرية بحق وثبات حتى كسرت طوق العبودية عن معصم كل فرد في شعبها، وصرخت تدعو لتحرير كل شعوب الأرض!! وكم هو البون واسع بين دولة استباحت استرقاق شعوب الأرض اسمها أمريكا، وأخرى رفضت الرق ودعت إلى حريتها وحرية سائر شعوب الأرض اسمها جنوب أفريقيا؟! فأيهما أحق أن يقوم فيها مبنى هيئة الأمم المتحدة؟! الجواب واضح ولا ينتطح عليه عنزان: هي جنوب أفريقيا.
وفي الوقت الذي تغنت فيها أمريكا بالعنصرية الدونية، لدرجة أنها لم تجد حرجًا أن تعلق لافتات على مداخل مطاعمها كُتِب عليها: ممنوع دخول الكلاب والسود، فإنَّ اللحظات الأولى لتحرر جنوب أفريقيا سجّلت ذاك الموقف لرئيسها نلسون مانديلا الذي توجه لشعبه بالمباركة في لحظات ذاك التحرر، وقال من ضمن ما قال: (يا شعبي في جنوب أفريقيا لن تنالوا طعم الحرية ما دام الشعب الفلسطيني تحت الحصار)، وهل تستوي الظلمات والنور، حتى يستوي شعار أمريكا (ممنوع دخول الكلاب والسود)، الذي يُجسد الظلمات مع شعار جنوب أفريقيا (يا شعبي في جنوب أفريقيا لن تنالوا طعم الحرية ما دام الشعب الفلسطيني تحت الحصار)، وهو الشعار الذي يُمثل النور! وما هي الأجواء التي يجب أن تُحيط بمبنى هيئة الأمم المتحدة؟! هل هي أجواء الظلمات أم أجواء النور؟! ولأنَّ الجواب واضح لدى كل عاقل في الأرض، ولأن كل عاقل في الأرض يقول: يجب أن تحيط أجواء النور بمبنى هيئة الأمم المتحدة، فهذا يعني أن المطلب بات مُلحًا لنقل مبنى هيئة الأمم المتحدة من أمريكا إلى جنوب أفريقيا!!
ومما يؤكد ذلك واقع الحال الذي تعيشه كل من أمريكا وجنوب أفريقيا الآن ونحن في عام 2024، فأمريكا الآن هي المزود الأساس بالسلاح للمؤسسة الإسرائيلية، وبهذا السلاح الأمريكي لا يزال حجم الكارثة الإنسانية يتضخم بغزة بأرقامه ومشاهده، وفي المقابل هي جنوب أفريقيا الدولة الأولى في كل الأرض التي تجرأت وتوجهت للمحكمة الجنائية الدولية تُطالب بالوقف الفوري لهذه الكارثة الإنسانية، وأمريكا الآن هي التي تُسلط شرطتها وكلابها لقمع مظاهرات الطلبة في ثمان وخمسين جامعة أمريكية لأن هذه المظاهرات كانت ولا تزال تدعو إلى وقف الحرب بغزة، وفي المقابل ها هي جامعات جنوب أفريقيا تفتح أبوابها لطلاب العلم من كل أهل الأرض، وها هي توفر الأمن الجامعي وحرية التعبير لكل طلبتها على اختلاف أنسابهم وألوانهم وأديانهم ولغاتهم، ويا للفرق البعيد بين جامعات باتت رمزًا للقهر والاضطهاد والإكراه وتكميم الأفواه وقمع الحريات كما هو عليه حال الجامعات الأمريكية الآن، وبين جامعات باتت رمزًا لحفظ حرمة الطلبة وحقهم الدائم بالتعبير عن آرائهم ومشاعرهم وتوفير المناخ الراشد لاحترام توجهاتهم كما هو حال الجامعات بجنوب أفريقيا، مما أصبح يؤكد أنه لا يُعقل أن يجتمع مبنى هيئة الأمم المتحدة مع مباني الجامعات الأمريكية الطاغية في مكان واحد اسمه أمريكا، ولذلك لا بد مما لا بد منه، ولا بد من نقل مبنى هيئة الأمم المتحدة إلى جنوب أفريقيا مما يعني توفير الانسجام بين مبنى هيئة الأمم المتحدة ومبنى جامعات جنوب أفريقيا في مكان واحد اسمه جنوب أفريقيا.
وحتى الآن ما نسينا ولن ننسى أن أمريكا هي أول من ألقى قنبلة ذرية على الناس المدنيين في تاريخ البشرية، وها هي يداها لا تزال ملطختين بدماء الضحايا الأبرياء الذين قتلتهم هذه القنبلة الذرية في كل من هيروشيما اليابانية وناجازاكي اليابانية، وفي المقابل هي جنوب أفريقيا التي احتضنت مباريات كأس العالم بكرة القدم، وبذلك احتضنت كل شعوب الأرض بما في ذلك الشعب الأمريكي والشعب الياباني، وشتان بين من يفتك بشعوب الأرض ويزهق أرواحها بأسلحته الفتاكة المُدمرة وبين من يحتضن شعوب الأرض ويجمعها على تنافس رياضي حضاري بعيدًا عن لغة القنابل الذرية وطائرات الأواكس والأساطيل البحرية العسكرية والصواريخ العابرة للقارات والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والمُسيرات القاتلة وشبكات التجسس، وشتان بين يد تنشر القتل والدمار والويلات على الناس ويدٌ تنثر عليهم النرجس والفل والرياحين، ولماذا المُكابرة حتى الآن، ولماذا لا يزال مبنى هيئة الأمم المتحدة يُفتح بابه ويُغلق بهذه اليد التي ضغطت على زر الشر ذات ليلة ليلاء فأرسلت الصواريخ تُدمر فيتنام ثم تُدمر العراق ثم تُدمر أفغانستان، ثم ها هي أسلحتها تتسبب بالدمار الكارثي بغزة، ولذلك لا أبالغ إذا قلت إن مبنى هيئة الأمم المتحدة سيبقى مُحتلًا ما دام قائمًا بأمريكا، ولأن فاقد الشيء لا يُعطيه، فلن تسطيع هيئة الأمم المتحدة أن تمنح الحرية لأي شعب مُحتل في الأرض وهي تُعاني من هذا الاحتلال الأمريكي لها، ولمن لا يعلم فقد كان مقر هيئة الأمم المتحدة في بداية تكوينها بفرنسا ثم انتقل مقرها إلى أمريكا، وهذا يعني أنه انتقل من دولة استعمارية إلى دولة أشد استعمارا، ومن معقل للإمبريالية إلى معقل أشد للإمبريالية، ومن مُنظّر لاحتلال الشعوب إلى مُنظّر أشد لاحتلال الشعوب، وهكذا أصبح حال هيئة الأمم المتحدة بعد هذا الانتقال كالمستجير بالرمضاء من النار، وكالهارب من فم الثعبان إلى فم التمساح، وكالهارب من صليبية أوروبا إلى صليبية أمريكا.
ويا لهذه البشرية المعاصرة التي أهانتها أشد الإهانات أمريكا، ويا لهذه الشعوب المعاصرة التي أتعستها أشد التعاسات أمريكا، فها هم كل رؤساء هذه البشرية ورؤساء هذه الشعوب اليوم لا يزالون يجتمعون كل برهة من الزمن في مبنى هيئة الأمم المتحدة الذي صادرته أمريكا، وها هم في كل اجتماع لهم يُقررون وقف الحرب بغزة ثم فجأة يرتفع إصبع أمريكا في كل اجتماع معترضًا على كل قرار بادّعاء أنه يملك حق النقض (الفيتو)، فيُبطل قرار هؤلاء الرؤساء فورًا، ثم يركب كل واحد منهم طائرته الرئاسية ويعود إلى بلده فاشلًا خائبًا خالي الوفاض، وقد يحتاج منه الأمر أن تطول رحلة عودة طائرته لأكثر من عشر ساعات وهو يجر ذيول الهزيمة في معركة الدفاع عن الإنسانية فوق أرض غزة وتحت سمائها بسبب الإصبع الأمريكية التي بات جميع أهل الأرض يتعوذون بالله تعالى من رفعها في مبنى هيئة الأمم المتحدة!!
ثمَّ انتصارًا للقسط والعدل أقول: حتى لو استيقظنا صباح يوم قريب، ووجدنا أن مبنى هيئة الأمم المتحدة قد فرَّ من أمريكا واستقر بجنوب أفريقيا أو بالصين أو بروسيا أو بأية دولة مسلمة أو عربية، فلن يُغير ذلك من حال هيئة الأمم المتحدة المترهلة المُفككة التي أوشكت أن تخرج إلى التقاعد بعد أن انتهى تاريخ استعمالها، ولا أبالغ إذا قلت: إن أهل الأرض يعيشون اليوم بلا هيئة أمم متحدة من حيث الحقيقة، ولم يبق من هيئة الأمم المتحدة اليوم إلا جسمها المريض الذي بات يلفظ أنفاسه الأخيرة، والبشرية اليوم مُلزمة أن تبحث عن البديل القيادي العالمي حتى لا تبقى الأرض في فراغ، وأنا شخصيًا كلي يقين أن البديل القادم هو خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا، بعد أن ملئت ظلمًا وجورا، وهو البديل الذي بشَّر به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.