إنهم صغار.. ولكنهم مربون
ليلى غليون
في الوقت الذي يشكو العديد من الآباء والمربين سوء تصرف وسلوك أبنائهم، وأنهم يقفون حائرين عاجزين لا يملكون حيلة إزاء هذا الجيل الذي يصفونه بالمتمرد والعنيد (الراكب رأسه) والذي لا يعجبه شيء ولا يرضى بشيء، في الوقت الذي أصبحت تربية ولد واحد من جيل اليوم أصعب من تربية عشرة أبناء من جيل الأمس كما جاء على لسان أحد الآباء، في الوقت الذي تنمو ظاهرة العقوق والانحراف ونهج العولمة عند قطاع لا بأس به من الأبناء والبنات، في الوقت الذي تكاد التربية الإيمانية لا تأخذ حقها في منهاج التربية الأسرية، تطل علينا إشراقات تربوية ومواقف رائعة تستحق الوقوف عندها لأبناء وبنات رغم صغر سنهم إلا أنهم كانوا في بعض الأحيان يتفوقون على الكبار بحسهم الواعي وحكمتهم البالغة وإدراكهم لدقائق الأمور، ورغم أن لكل واحد منهم موقفًا يختلف عن الآخر إلا أن خيطًا واحدًا يجمع بين هذه المواقف يتمثل بيقظة الحس الإيماني المتوثب والذي تُرجم بمواقف حية دوّنها التاريخ في سجلاته لتتناقل عبر الأيام والعصور وتُستقى منها العبر والدروس، وإن كان هناك العديد من النماذج التي لا يتسع المجال لذكرها، فقد اخترت البعض منها والتي لا تدل على صلاح الأبناء فقط، بل وقوفهم أيضًا أمام أهليهم وذويهم موقف المربي الحكيم العارف بالله الذي خاض معارك الحياة فانتصر عليها بانتصاره على نفسه ولم يعد يشغله شيء إلا التفكر والتدبر بما عند الله ليقينه الجازم بأن ما عند الله خير وأبقى.
فهذه الفتاة التي كلنا قد سمع أو قرأ عنها والتي عاشت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه والتي كانت تحذر أمها من الغش في اللبن عن طريق خلطه بالماء، فتقول الأم بأن عمر لا يراها ليكون رد تلك الفتاة درسًا لأمها ولكل من تسول له نفسه أن ينتهج أساليب الغش والخداع في تعامله مع الناس لتقول: إذا كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا. وفي موقف آخر بطله صبي صغير لم يبلغ الحلم وقد ذرفت عيناه دموعًا خوفًا من الجليل، فسأله أحدهم عن سبب بكائه، فتلا الصبي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة) فقيل له: ولم الخوف وأنت لا تزال صغيرًا ولم تبلغ سن التكليف؟ فقال الصبي: وكيف لا أخاف والنار توقد بصغار الحطب، لتجد هذه العبارة صدى مدويًا في نفس السائل الذي بكى هو الآخر وقال: إن الصبي أخوف منا من النار.
وهناك موقفان عظيمان من مواقف عظيمة بذرها التاريخ في أرضه الطيبة ليظل نباتها مثمرًا بإذن ربه، فقد دخل على الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أحد أبنائه ويدعى عبد الملك وكان يومئذ في السابعة عشرة من عمره فقال لأبيه: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي بني، أريد أن أغفو قليلًا فلم يبق في جسدي طاقة، فقال عبد الملك: أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي بني إذا حان الظهر صليت في الناس ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله.
فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين ومن أين لك أن تعيش إلى الظهر؟ فألهبت هذه الكلمات عزيمة عمر وأطارت النوم من عينيه وبعثت القوة في جسده المتعب وقال: أدن مني أي بني، فدنا منه، فضمه إليه وقبل ما بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني.
وها هو عمر بن عبد العزيز يرى ابنه (وكان صبيًا) في يوم عيد يلبس ثوبًا قديمًا، فدمعت عيناه فسأله ولده: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلق، قال: يا أمير المؤمنين إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه، أو عق أمه وأباه، وإني لأرجو أن يكون الله تعالى راضيًا عني برضاك.
إنها مواقف لا يمكننا سوى أن نقف قبالتها وقد أخذتنا الروعة والانبهار وحلقت بنا بأجنحتها لتطير إلى ذاك الزمن الجميل الذي تاقت نفوسنا ليعود من جديد بعزه ومجده، إنها لوحات تربوية خلابة تتجلى فيها صور رائعة تجسد حقيقة وطبيعة العلاقة بين الأب وابنه المبنية على الحوار الهادئ وحسن الإصغاء والمصارحة والتي ظهر فيها الوالد وابنه وكأنهما صديقان حميمان، ومن جهة أخرى تبين مدى سلامة التربية التي تلقاها الولد والتي تمثلت بذاك الرد المفحم والحجة القوية التي انطلقت بها قريحته حيث هزت جوارح والده وجعلت فرائصه ترتعد خوفًا ورهبة من الله تعالى ليستكثر على نفسه حتى الراحة أو سويعة نوم احتاجها جسده المتعب بعد أن أنذره ابنه ابن السابعة عشرة وذكره بالموت الذي قد يأتي في أية لحظة وبدون استئذان، فكيف له أن يغفو ويسهو عن مصالح الرعية دون أن يرد المظالم إلى أهلها. إنه فتى لا تزال فيه براعم الشباب في أطوار نموها الأولى، ولكنه يتحدث بحكمة الكبار وبدون أن يخرج عن حدود الأدب مع أبيه الخليفة الزاهد الذي ترك نعيم الدنيا وبهرجها وأقبل على شظف العيش وضيق الدنيا يخدم الإسلام والمسلمين بقلب مخبت إلى الله لا يريد من هذه الدنيا شيئًا، بل كان شوقه وحنينه إلى ما هو أعظم وأسمى من الدنيا وما فيها لما قال لزوجته فاطمة: يا فاطمة إني أشتهي الجنة، فقالت له زوجته المؤمنة الوفية: اصنع ما تراه فأنا معك، وما كنت لأصاحبك في النعيم وأدعك في الضيق وأنا راضية.
نِعْم الزوج ونعم الزوجة ونعم الابن بل نعم التربية، حتى إذا كشفنا الستار عن المشهد الثاني من هذه المواقف المشرفة وجدناه لا يقل عظمة وروعة عن سابقه، إنه مشهد يعكس معنى الاحسان والبر بالوالدين والعلو بالنفس والسمو بها، إنها صورة يتلألأ منها الرضى والقبول والقناعة لينسج منها حلة جميلة لبسها ذاك الابن فكانت نفسه أجمل ما يكون وجعلته لا يلتفت للثوب القديم الذي كان يرتديه يوم العيد ولا يلقي له بالًا، بل تحدث مع أبيه برقيق عباراته بأن لا تذهب نفسه عليه حسرة وحزنًا لعدم لبسه الثوب الجديد، لأن اهتمامات الابن وتطلعاته ما كانت لتنحصر في الثوب الجديد بل هي أكبر من ذلك بكثير، إنه يتوق لرضى الله سبحانه، ولأنه كذلك فهو يدرك أن رضى الله برضى الوالدين، لذا فهو يسعى لينسج من خيوط بر الوالدين حلة يكتسي بها ليُكتب له القبول والرضى من رب العالمين.
من علم هؤلاء؟ من ربى هؤلاء؟ من أدَّب وفقه هؤلاء؟ إنهم أبناء ولكنهم مربون، وفي شخصية كل واحد منهم تكمن مدارس للتربية، إنهم صغار بأعمارهم ولكنهم كبار بمواقفهم نسأل الله تعالى أن يرزقنا أبناء يكونون لنا عونًا على ديننا ودنيانا كما كان هؤلاء عونًا لآبائهم على دينهم ودنياهم.