معركة الوعي (198) نبوءات “الكتاب المقدّس” تجمع بين النّقيضين السّر وراء الدّعم الغربيّ للمشروع الصّهيونيّ (2-2)
حامد اغبارية
إنّ ما يجمع المشروع الصهيوني وأصحابَه بالغرب الصليبيّ هو وحدة مصير مبنيّة على نبوءات توراتية التقى الطرفان عليها.
يحظى المشروع الصّهيوني بدعم كامل من مجموعة مسيحية تُعرف باسم المسيحيّة الصهيونية، وهي فئة خرجت عن قوانين الكنيسة التقليدية، واختطّت لنفسها خطّا تزعم فيه أنه هو السبيل الوحيد لعودة المسيح وتحقيق الخلاص على يد المسيح بعد عودته في آخر الزمان.
يقول القسّ الأمريكي جون هاغي، وهو أحد كبار هذا التّيار، إن تاريخ البشرية يمكن تلخيصه بمقولة واحدة: من يدعمون إسرائيل يباركهم الرب ومن يعادونها يلعنهم الرب”!!
يتبنى هذا التيار الدّموي معتقدات توراتية- إنجيلية قائمة على نبوءات مكذوبة في بعضها ومحرّفة في بعضها الآخر، أصبحت بالنسبة لهؤلاء عقيدة راسخة جعلت دعمهم للمشروع الصهيوني طريقا إلى “ملكوت الرب”! فالتقى الطرفان على ذات المفاهيم، وإن كانت تفسيرات التيار الخلاصي الصهيوني تختلف عن تفسيرات التيار المسيحي. فكلاهما استقر في عقيدته شديدة التطرف أنّ الاستراتيجية التي ستوصلهما إلى الهدف هي طريق السيطرة على الأرض والاستيطان ومزيد من القتل والدمار والإبادة الممنهجة. فكلاهما يؤمن بأنّ نهاية العالم لا بد أن يسبقها أعمال قتل وسفك كثير للدماء سعيًا على تطهير الأرض المقدسة من الأغيار، وهذه الأعمال هي من رغبة الرّب، لذلك يصورون للناس بأنه لا يد لهم فيها ولا شأن، بل هي يد الرب!!
يعتقد تيار المسيحية الصهيونية، الذي تغلغل في مراكز صناعة القرار في دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بأن الرب قد وضع خطة مسبقة تتضمن محطات زمنية لنهاية التاريخ، وأن قيام دولة لليهود في فلسطين هي إحدى المحطات التي تقربهم من النهاية وتحقيق عودة المسيح. ويؤمن هؤلاء أن فلسطين – بحسب خطة الرب- ستكون مسرح أحداث النهاية التي ستُحسم لصالح المسيحية نحو السيطرة على العالم، والتي سيحكمها المسيح بنفسه.
من خلال هذه المفاهيم القائمة على ضلالات باطلة، أثبتتها الكنيسة الغربية نفسها، يرى هؤلاء أنه من أجل عودة المسيح ومعه ملكوت الرب، فإنه لا بد من قيام دولة إسرائيل. ولكي تتحقق العودة النهائية لا بد من السيطرة على القدس؛ المدينة التي كانت السيطرة عليها هدفا رئيسا للحملات الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر ولمّا تنته بعدُ. لكن السيطرة على القدس وحدها لا تكفي، إذ من أجل اكتمال مشهد عودة المسيح، لا بدّ له من دولة يحكم العالم من خلالها. وهذه الدولة- حسب النبوءات التي يعتقدون بها- لا بدّ أن تمتد على أكبر مساحة ممكنة حول الأرض المقدسة، وهي ذات الفكرة التي يحملها المشروع الصهيوني الذي يحلم بدولة من النيل إلى الفرات، لأن مسيحهم الخاص بهم، والمعروف عندهم باسم “ميلِخ مشيّح”، سيحكم هو الآخر الدنيا منطلقا من هذه الدولة التي تُعرف باسم “مملكة إسرائيل الكبرى”!! ومن أجل قيام هذه الدولة وتمددها وتوسع الاستيطان فيها، فإنه لا بدّ من نيل رضا الرب. وهذا لن يتحقق إلا إذا حققوا رغبة الرب في إعادة بناء الهيكل. فبناء الهيكل هو المرحلة الثانية، بعد السيطرة على القدس، لتحقيق النبوءات!! ولا يهم إذا بني الهيكل على الدماء. فكل شيء مباح وشرعي من أجل مرضاة الرب! فالرب يريد ذلك!!
يقول القس الأمريكي جيري فالويل (توفي عام 2007) صاحب فكرة “المملكتين” مملكة الأرض (دولة إسرائيل الكبرى) ومملكة السماء، إن قيام دولة إسرائيل هو أهم حدث في تاريخ البشرية منذ صعود يسوع إلى السماء.
لذلك ليس مهما في نظر هؤلاء كيف تتحقق النبوءات، بل يجب أن تتحقق بأي ثمن، حتى لو كان ذلك بارتكاب أعمال إبادة وتهجير وهدم وتدمير. فكل هذا مشروع في نظرهم طالما أنه يرضي الرب. ومن أجل ذلك عمل زعماء هذا التيار على تسييس تفسيرات “الكتاب المقدس” بشكل يخدم أهداف المشروع الصهيوني، الذي تدلل كل الوقائع التي حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر، والتي توجت بزعزعة الخلافة الإسلامية وإسقاطها نهائيا واستبدالها بحفنة من العملاء الذين يخدمون ذات المشروع ، مرورا بوعد بلفور عام 1917، ثم أحداث ما قبل النكبة، ثم النكبة وما وقع أثناءها وبعدها لغاية يومنا هذا، الذي نعايش فيه فصلا آخر من فصول المشروع، تدلل على أن هناك خطة منهجية تقوم على ثلاث ركائز: تجيير النصوص المسيحية بما يخدم المشروع الصهيوني، وتأجيج الصراعات في المنطقة ونشر الفتن والحروب، وتقديم كل الدعم بكل الوسائل المالية والعسكرية والسياسية وغيرها للمشروع الصهيوني إلى أن يتحقق قيام مملكة المسيح القادم، بعد بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.
وإنك حين تراجع كافة التصريحات الصادرة عن إدارة الرئيس الأمريكي بايدن، بما فيها تصريحاته هو، وتصريحات رؤساء دول غربية مثل بريطانيا وفرنسا، والمتعلقة بالأحداث الجارية في غزة منذ سبعة أشهر، فإنك ستجدها كلها تعبر عن ذات المفاهيم وتصب في ذات الهدف: الدعم الكامل للدولة الإسرائيلية، تحت شعار “من حقها الدفاع عن نفسها”.
ولعلنا لاحظنا كيف أن ماكينات هذا المشروع المشترك الذي يعبر عن وحدة مصير عقائدية بين الفكرة الصهيونية وبين الفكرة المسيحية الخلاصية، عملت بكل قوتها من أجل الحيلولة دون حدوث ما يخشون حدوثه؛ وهو قيام قوة أو كتلة إسلامية تحكم في أرض المسلمين، فكانت البداية، بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وإيقاع النكبة على الشعب الفلسطيني، جرّ دول عربية قامت أساسا على أنقاض الخلافة وتتحكم بها أنظمة وظيفية تلقى الدعم التام من الغرب، إلى دائرة التطبيع مع المشروع الصهيوني، وكانت البداية مع مصر عام 1979، ثم ضرب القوة الإسلامية التي صعدت في الجزائر مطلع التسعينات وإشعال نار حرب أهلية سفكت فيها دماء كثيرة، وعملت فيها ماكنة الإعلام الغربية- الصهيونية على شيطنة كل مشروع إسلامي يسعى إلى الحكم، ثم ضرب العراق وأفغانستان وشن حرب لا هوادة فيها على تنظيم القاعدة، ثم اختراع “داعش” وما أدراك ما داعش، ثم إسقاط حكم الإسلاميين في مصر بعد ثورة يناير 2011، ثم بث الفتنة في ليبيا واليمن وتونس وتمزيق سوريا إربا إربا… كل ذلك لأن هذه القوى تدرك تماما أن استقرار الأوضاع في المنطقة العربية، وتمكين المشروع الإسلامي يعني أن “خطة الرب المعدة مسبقا” ستفشل ولن تتحقق.
فهل كل ما تراه اليوم لا علاقة له “بخطة الرب المعدة مسبقا” أم أنه قدر الله الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه المصير؟
لا تحزن، ولا تقنط ولا تيأس، فقدر الله غالب. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.