حتى لا تكون الكارثة الإنسانية بغزة لا بواكي لها
الشيخ رائد صلاح
ليست الأيام العادية كأيام البلاء، مع التأكيد أنَّ مظاهر الحياة لا تتوقف في الأيام العادية ولا في أيام البلاء، ولكن التعبير عن مظاهر الحياة في الأيام العادية يختلف عن التعبير عنها في أيام البلاء، وعلى سبيل المثال فإن التعبير عن الفرح في الأيام العادية يختلف عن التعبير عنه في أيام البلاء، وقد يكون باعث التعبير عن هذا الفرح هو حفل عرس، أو الحصول على شهادة جامعية، أو حلول يوم عيد، أو شفاء مريض، أو عودة غائب طال غيابه، أو فوز في انتخابات … الخ، وهي مجرد أمثلة، وإلا فإن بواعث التعبير عن الفرح هي كثيرة ولا حدود لها، وبغض النظر عن نوعية أي باعث منها، فيجب أن نعلم أن التعبير عن الفرح في الأيام العادية يختلف عن التعبير عن الفرح في أيام البلاء، ونحن الآن في أيام بلاء، لا بل في أيام بلاء شديد، ولا يُجادل في ذلك عاقل، والمطلوب منا أن نُحسن التعبير عن بواعث فرحنا في هذه الأيام على اعتبار أنها أيام بلاء شديد، وما يسعنا في الأيام العادية لا يسعنا في هذه الأيام التي هي أيام بلاء شديد، وإلا ماذا نُسمي الكارثة الإنسانية بغزة!!، وماذا نُسمي الأرقام المهولة التي تتحدث عن ضحايا هذه الكارثة الإنسانية بغزة بعامة؟! وماذا نُسمي الأرقام المهولة التي تتحدث عن ضحايا هذه الكارثة الإنسانية من الأطفال بغزة بخاصة؟! وماذا نُسمي الأرقام المهولة التي تتحدث عن عدد المساجد والكنائس والجامعات والمدارس والمستشفيات والبيوت السكنية التي وقع عليها الدمار في هذه الكارثة الإنسانية بغزة!!
وهذا يعني أننا في أيام بلاء شديد، ويجب أن ينعكس ذلك على مظاهر أعراسنا التي هي من بواعث فرحنا في هذه الأيام، ولذلك لسنا صادقين في الميزان الشرعي وفي ميزان المروءة وفي ميزان الإنسانية عندما نقول: نحن محزونون على الكارثة الإنسانية بغزة وفي الوقت نفسه نُزين سيارات أعراسنا بزينة لم يحظ بها فرعون وهامان وقارون والنمرود!!، أو عندما نقول: تكسرت قلوبنا بسبب الكارثة الإنسانية بغزة، وفي الوقت نفسه نقيم الليالي الملاح قُبيل يوم العرس، ونستبيح في هذه الأيام دعوة أشهر المطربين، ولا نتردد أن نصفق له وهو يغني، ولا نتردد أن نتمايل راقصين خلال غنائه، بل لا يتردد البعض منا من إطلاق الرصاص إلى الأعلى من سلاحه المشبوه، وقد يُبالغ البعض منا ويعقد حلقة دبكة شعبية، ثم يُواصل الضرب بنعليه على الأرض تعبيرًا عن نشوة فرحه، فهل هذا يُعقل ونحن في أيام الكارثة الإنسانية بغزة؟!
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عاد إلى المدينة المنورة بعد استشهاد الصحابي حمزة بن عبد المطلب قال بصوت عال: (ولكن حمزة لا بواكي له)، وكأني به يُطالب المسلمين إظهار حزنهم على استشهاد حمزة رضي الله عنه، وكأني به يُطالبهم في المقابل التوقف عن إظهار الأفراح بغض النظر عن بواعث هذه الأفراح سواء كانت عرسًا أو غيره!!
فهل يُعقل أن نُظهر أفراحنا اليوم وهناك على قرب منا قد قادت هذه الكارثة الإنسانية بغزة إلى أكثر من أربعين ألف ضحية حتى الآن، لا يزال بعضهم تحت الأنقاض؟! ولا يزال بعضهم يبحث عن قبر يؤويه؟! ثم ألم يُشاهد كل منا أطفالًا يموتون جوعًا بالبث المباشر بغزة؟! وألم يُشاهد كل منا مرضى يلفظون أنفاسهم الأخيرة لانعدام الدواء بغزة؟! ثم بعد كل ذلك يستبيح بعضنا لنفسه أن يُغني ويُصفق ويرقص ويدبك وكأن لسان حال هؤلاء البعض بات يقول: لا حاجة للحزن أو التحزن على هؤلاء الأربعين ألف ضحية -حتى الآن !!، ولا حاجة أن تبكي البواكي على هؤلاء الأربعين ألف ضحية -حتى الآن-!!
وهل مثل هذا السلوك الأرعن إلا موت الدين، وموت المروءة، وموت الإنسانية في داخل هؤلاء البعض؟! وقد يُكابر البعض ويقول: من حقنا أن نُقيم عرسًا لابننا مهما كان البلاء شديدًا، ومرة أخرى أقول: نحن لا ندعو إلى إيقاف مظاهر الحياة بالمُطلق، ولا يسعنا أن نقول لمعشر الشباب ألا يتزوجوا، ولكن يسعنا أن نقول لهم: أحيوا أعراسكم وفق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة)، وكم هو عدد حضور وليمة الشاة؟! إنه عدد قليل لا يتجاوز العشرين في أحسن الأحوال، فلماذا لا نتأدب في أعراسنا وفق هذا التوجيه النبوي العظيم؟!، وأن نحصر عدد حضور العرس بالأقربين الأقربين للعروسين، بعيدًا عن المكاء والتصدية، وبعيدًا عن أفراح ليلة الحناء، وبعيدًا عن أفراح صمدة العروس، وبعيدًا عن أفراح زفة العريس، وبعيدًا عن دعوة ألف أو ينقص أو يزيد وإيلام الولائم الفاخرة لهم، ثم تقديم الكنافة لهم، ثم تقديم الفواكه والمكسرات لهم، ثم الطواف عليهم بالقهوة بلا توقف، أيُعقل أن يكون ذلك في مجتمع يعتد بانتمائه الإسلامي العروبي الفلسطيني، ولا يبعد موقع العرس عن مأتم الكارثة الإنسانية بغزة إلا عشرات الكيلومترات أو أقل؟! وهل يعكس ذلك إلا ازدواجية مشوهة تُهدد موت انتمائنا في داخلنا، لا بل موت قيمنا في داخلنا؟! وما هي قيمة إنسان مات انتماؤه وماتت قيمه، وهل هو إلا كالأنعام يأكل ويشرب ويُلهيه الأمل الخدّاع؟! وكم صدق أحد العارفين عندما قال: (من ضحك أو استمع أو لبس ثوبًا مبخرًا أو ذهب إلى مواضع المنتزهات أيام نزول البلاء على المسلمين فهو والبهائم سواء)!!
ثمَّ أليس هو السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كتب على نفسه ألا يبتسم ما دام المسجد الأقصى تحت الاحتلال الصليبي، ولما سُئل لماذا لا تبتسم يا صلاح الدين؟! قال: كيف أبتسم وهذه نِعال الصليبيين تدوس المسجد الأقصى!!
فهل لنا بعد ذلك أن نُقابل صرخات أطفال الكارثة الإنسانية بغزة بصرخات الطرب والمواويل والميجنا في الأعراس؟! وهل لنا بعد ذلك أن نُقابل صرخات أرامل وثكالى الكارثة الإنسانية بغزة بصرخات حداء مُعيب وزغاريد مشوهة في الأعراس؟! وهل لنا بعد ذلك أن نُقابل موائد الجوع حتى الموت بغزة بولائم ملوكية فاخرة تعددت فيها أنواع اللحوم والشراب في الأعراس؟! ثم ألم يأتنا خبر الرجل الصالح الذي كان يُصر أن ينام مكشوفًا ترتعد فرائصه في البرد الشديد، وهو يملك أن ينام على فراش وثير وأن يلتحف بلحاف ذوي النعمة والدلال، فلما سُئل عن ذلك قال: هناك الفقراء والمساكين وذوو السبيل الذين يبيتون في العراء يرتجفون، ولأنني لا أستطيع أن أساعدهم، فها أنذا أجتهد أن أشاطرهم حالهم وألم بردهم وارتجاف أبدانهم!!، ولعل هذا الرجل الصالح قام بهذا السلوك الإنساني الرفيع استنادًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).
وبناءً على هذا التوجيه النبوي الرفيع أقول: من بات منا ولم يهتم بأمر الكارثة الإنسانية بغزة فليس من المسلمين ولا من العرب ولا من الفلسطينيين ولا تربطه بالمروءة والإنسانية أية صلة!!
وقد أحسنت القيادة المسيحية الدينية عندما دعت إلى التواضع في أفراح عيد الميلاد، كما وأحسنت القيادة المسلمة الدينية عندما دعت إلى التواضع في أفراح عيد الفطر، والتزامًا بهذا السياق أدعو كل أهلنا في الداخل الفلسطيني إلى التواضع في أفراحهم بعامة وفي أفراح أعراسهم بخاصة، ويسعهم أن يقفوا في أفراح أعراسهم عند حد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة)، وأنا شخصيًا أعلن في ختام هذه المقالة أنني لن أشارك في أي عرس، وليكن صاحبه من يكون، فأرجو المعذرة وأرجو ألا يدعوني أحد إلى عرسه أو عرس ابنه، فإني لن ألبي الدعوة وهذا ما أنصح به الجميع، وهو أقل التماثل مع الكارثة الإنسانية بغزة.