“تيك توك” وحرب غزة.. هل تلاحق أميركا المنصة لأسباب أمنية؟
يعد “تيك توك” من أكثر التطبيقات شهرة ونموا، وقد ازداد انتشاره بشكل ملحوظ أثناء فترة كورونا لتتجاوز إنستغرام عام 2021، حاصدا مليار مستخدم، وفقا لقاعدة بيانات ستاتيستا (statista).
لكن في الشهور الأخيرة ظهر عائق في وجه هذا النمو الرقمي، حيث أدت جهود عدة مشرّعين في الكونغرس الأميركي، بقيادة لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب، إلى إقرار مشروع قانون حظر التطبيق في الولايات المتحدة، والذي حظي بأغلبية ساحقة، إذ أيده 352 نائبا مقابل 65 معارضا.
وفي فبراير/شباط 2023، صدر قرار يمنع تحميل التطبيق على الأجهزة الحكومية الأميركية، وهو قرار يفرضه أيضا الاتحاد الأوروبي ودول مثل: أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، وتايوان، وأفغانستان.
ويضع هذا الأمر الشركة الصينية المالكة “بايت دانس” (ByteDance) أمام خيارين: إما فصل التطبيق عن الشركة وبيعه، والمفضل هنا أن يتم البيع لصالح أميركيين، أو مواجهة حظر محتمل في أميركا، سيؤدي لخسارة أكبر شريحة مستخدمين للتطبيق، حيث يستخدمه نحو 170 مليون أميركي.
دواعي الحظر
ليست محاولة الحظر هذه جديدة على القوانين الأميركية، فهناك قوانين تحظر أي شركة تعمل في مجالات إستراتيجية كـ”الاتصالات والطاقة” تكون ملكيتها غير أميركية.
يقول مناصرو قانون الحظر إن تيك توك يعد مسألة أمن قومي، إذ يرونه أداة تجسس صينية تجمع بيانات الأميركيين وتؤثر في عقولهم عبر خوارزمياتها، مع العلم أن ذلك ثبت عن وسائل تواصل اجتماعية أميركية.
بينما يرى معارضو القانون، ومن ضمنهم مجموعات حقوقية، أنه غير منطقي ويؤثر سلبا على حياة العديد من مستخدميه، ويشكل تهديدا على حرية التعبير الدستورية.
لكن يرجع كثيرون السبب الحقيقي لمحاربة هذا التطبيق في هذا الوقت إلى الزخم الذي اكتسبته القضية الفلسطينية على المنصة، خصوصا بعد مساواة مجلس النواب الأميركي معاداة السامية بمعاداة الصهيونية، ما جعل الكثيرين ينظرون لأي محتوى ينتقد سياسات إسرائيل وأفعالها.
يظهر ذلك في تغريدة الصحفي الأميركي غلين غرينوالد على منصة إكس (X) التي قال فيها “يبحث كل تقرير إخباري جاد عن كيف اكتسب “مشروع قانون حظر تيك توك” زخما فجأة -الذي يبدو أنه ظهر من العدم- عندما جن جنون الحزبين الأميركيين من مقدرة العديد من الأميركيين على انتقاد إسرائيل”.
كما نددت السيناتور مارشا بلاكبرن بالمنصة قائلة “لن يكون من المستغرب أن يروج تيك توك، والذي تمتلكه الصين، للمحتوى المؤيد لحركة حماس”.
على الرغم من كون الصين سببا رئيسيا لحظر التطبيق، فإن مناصرة كثير من الشباب الأميركي للقضية الفلسطينية هو ما أشعل الفتيل، وهذا ما تؤكده عدة وكالات إخبارية أيضا مثل إن بي سي، وذي إندبندنت.
“تيك توك” تحارب الادعاءات
من جهتها، سعت شركة تيك توك إلى محاربة أي ادعاءات بدعم القضية الفلسطينية على حساب الصهيونية، حيث لم يدخر الرئيس التنفيذي للشركة شو زي تشيو وموظفوه جهدا في إرضاء عملائهم المتخوفين من المحتوى الداعم لفلسطين على المنصة.
وبينما كان تشيو مشغولا بزيارات ونقاشات مع المديرين التنفيذيين في تيندر وفيسبوك للتصدي لاتهامات معاداة السامية، كان مدير العمليات في تيك توك آدام بريسر وفريقه يجرون لقاءات واتصالات خاصة مع مستخدمي التطبيق من اليهود والمشاهير في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ليطمئنوهم بعدم تحيّز التطبيق والتزامه بخلق بيئة آمنة لمستخدميه.
وشمل الاتصال إيمي شومر وساشا بارون كوهين، اللذين اتهما التطبيق بالترويج لخطاب الكراهية، واصفين ما يحصل على التطبيق بأسوأ موجة محتوى معادية للسامية منذ زمن هتلر.
مخاوف السياسيين من جيل التيك توك
ووفق تقرير لوكالة إن بي سي، فإن هناك تخوفات حول تأثير هذا المحتوى على نظرة الشباب الأميركي لإسرائيل، إذ قال السيناتور ماركو روبيو، في حسابه على إكس، إن “تيك توك أداة تستخدمها الصين لتروج لآرائها بين الأميركيين، والآن يتم استخدامها للتقليل من فظاعة إرهاب حماس”.
يبدو أن مصير القانون الآن بيد مجلس الشيوخ، حيث انتقل لشوط آخر من المناقشات والتصويتات، وإذا ما نجحت جهود المشرعين، فإن القانون في غالب الأمر لن يجبر الأميركيين على إزالة التطبيق من أجهزتهم، لكن لن يكون بإمكانهم تحميله أو تحديثه بعد ذلك.
وقد صرح الرئيس الأميركي جو بايدن بأنه سيوقع على القانون ما إن يصل إلى مكتبه، وهو موقف يوازي موقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 2020، الذي حاول حظر تيك توك وفرض بيعه عبر قرار تنفيذي، لكنه فشل بسبب تعقيدات قانونية.
من الملاحظ أن هناك سعيا حثيثا من داعمي إسرائيل لشراء تيك توك، وفي هذا الصدد يقول المدير السابق لمكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك كريغ مخيبر “إنهم لا يحاولون حظر تيك توك، إنهم يحاولون استخدام سلطة الحكومة للسماح لمالكين مؤيدين لإسرائيل بالاستيلاء عليه، لتكميم الانتقادات الموجهة ضد الإبادة والفصل العنصري”.
ويتصدر تلك الجهود وزير الخزانة الأميركي السابق ستيفن منوشين، المعروف بعلاقته القوية بإسرائيل، والذي أعلن حشده مستثمرين لشراء التطبيق.
من جهتها، عبّرت الصين العام الماضي عن رفضها وبشدة أي بيع قسري للتطبيق، وعلق المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ون بين في 9 مارس/آذار الماضي قائلا إن أميركا تتعامل مع قضية بيع تيك توك “بمنطق اللصوص”؛ حيث إنها تود الاستحواذ على ما ليس لها.
قرار الحظر ليس سهلا
ولعل أهم العقبات التي ستواجه داعمي حظر التيك توك عند وصوله إلى مجلس الشيوخ هو أن المجلس يعي أهمية الناخبين الشباب، الذين يعدون شريحة أساسية ومؤثرة في الانتخابات الأميركية لعام 2024، كما يعي ترامب ذلك تماما؛ فقد تراجع عن موقفه السابق وعارض حظر التطبيق في محاولة لاستقطاب المصوتين.
وبالفعل عبّر كثير من المصوتين عن استيائهم من مشروع القانون قبل أن يتم التصويت عليه.
وهو ما اعتمدت عليه شركة بايت دانس، التي لم تترك مصير التطبيق عرضة للحظ، حيث نشرت نداءً مستعجلا عبر التطبيق، مستنجدة بمستخدميه ضد القانون، وهو ما فعلته تطبيقات أخرى من قبل، وطلبت منهم مهاتفة ممثليهم في مقاطعاتهم والتعبير عن معارضتهم لمشروع القانون.
انهالت الاتصالات على الكونغرس، الكثير منها جاء من المراهقين وأصحاب الأعمال والمستفيدين من المنصة، كانوا يتوسلون تارة ويهددون بإيذاء أنفسهم تارة ولكن بلا فائدة.
بل إن جهودهم هذه جعلت المشرعين أكثر تصميما على تمرير القانون، مشيرين إلى مقدرة التطبيق على تحريك الأميركيين والتأثير عليهم، فأثار تمرير القانون غضب مستخدمي التطبيق، الذين عبّروا عن سخطهم من حكومة لا تستمع لآرائهم.
ووفق تقرير لصحيفة ذي إنبندنت، رأى كثير من مستخدمي التطبيق القانون محاولة لإسكات صوتهم بشأن القضية الفلسطينية، وقمع آراء الجيل الشاب الذي ينتقد إسرائيل، عكس الجيل القديم الذي يحتل معاقل السلطة الأميركية، قائلين إن قرار حكومة بايدن سينعكس على نتائج الانتخابات المقبلة.
بدوره، عبّر رئيس الهيئة القضائية بمجلس الشيوخ ديك دوربين عن قلقه حول مشروعية القانون، الذي قال كثيرون إنه ينتهك حقوق حرية التعبير التي كفلها الدستور.
كما حذر من التداعيات السياسية الناتجة عنه، إثر اقتراب موعد الانتخابات قائلا “استبعاد مجموعة كبيرة من الناخبين الشبان ليس الإستراتيجية الأفضل المعروفة لإعادة الانتخاب”.
هل يروج تيك توك محتوى داعما للقضية الفلسطينية؟
وفقا لتيك توك والإحصائيات المتوفرة، فإن الدليل الرئيسي الذي استخدمه المنتقدون لاتهام تيك توك بغسل عقول مستخدمي التطبيق واستخدام الخوارزميات لحشد الدعم لفلسطين كان عدد المشاهدات التي حصدها الوسم الداعم لفلسطين، والتي فاق عددها ما حصل عليه الوسم الداعم لإسرائيل بعشر مرات.
لكن من الواضح أن ما يراه المشرعون الأميركيون على أنه تحيز ومؤامرة ما هو سوى انعكاس للواقع، فنظرة واحدة على ديموغرافية مستخدمي التطبيق، كما تظهر الإحصائيات، يتضح أن أغلب مستخدميه هم اليافعون من الشريحة الأكثر دعما لفلسطين في المجتمع الأميركي (60% من مستخدمي تيك توك تتراوح أعمارهم بين 16 و24، و26% منهم أعمارهم بين 26 و44).
تضاعف دعم القضية الفلسطينية بين الشباب الأميركي من 26% إلى 52% بين شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني المنقضيين وفق إحصائية أجرتها جامعة كوينيبياك، بينما انهارت درجات التعاطف مع إسرائيل من 41% إلى 29%.
وهذا الدعم ليس بجديد، فقد أظهر الأميركيون الشبان دعمهم للفلسطينيين بشكل مستمر -ولو بنسبة أقل- وفق استطلاعات لمركز بيو للأبحاث أجراها في 2014، أي قبل ظهور تيك توك بسنتين.
ووفق دراسة نشرها مركز بيو في مارس/آذار الماضي، فإن الفرق بين الأجيال ملحوظ وفي تزايد، حيث يظهر من هم دون سن 30 قبولا أكثر لمبدأ أن لحماس أسبابا مشروعة لمقاومة إسرائيل، ولدى البالغين الشباب في الولايات المتحدة رؤية أكثر إيجابية للشعب الفلسطيني من الشعب الإسرائيلي.
وبالتالي فإن الإجابة البسيطة لزيادة المحتوى الداعم لفلسطين على المنصة هو أن الكثير من مستخدمي المنصة أنفسهم يدعمون فلسطين، وهو ما أشارت إليه المنصة في بيان لها، حيث قالت “من المهم فهم أن الوسوم على المنصة تُكتب وتنشر بواسطة صُناع المحتوى وليس تيك توك”.
غياب الأدلة ودحر الاتهامات
يرى بعض المعلقين السياسيين، مثل تاكر كارلسون، أن ما تقوم به الحكومة ليس إلا نوعا من الرقابة ومحاولة للسيطرة على المحتوى، بينما يراه آخرون خطوة مهمة لصد التجسس الصيني، الذي فشل المشرعون في تقديم أي دليل عليه حتى الآن.
ومن الضروري هنا لفت الانتباه لما غفل عنه الكثيرون من السياسيين الأميركيين، الذين طالبوا بحظر التطبيق، وهو أن غير الأميركيين يستخدمون المنصة أيضا، فالمستخدمون الإندونيسيون المعروفون بدعمهم لفلسطين، وتعدادهم 125 مليونا، يمثلون ثاني أكبر شريحة بعد الأميركيين.
ولتيك توك جمهور كبير في مناطق معروفة بتضامنها مع غزة، مثل الشرق الأوسط وبعض دول أميركا اللاتينية.
ويترتب على هذا نقطتان؛ الأولى هي أنه من غير المنطقي افتراض أن المنصة تستهدف عقول الشباب الأميركي، والثانية هي أن هناك آراء متنوعة، ورأي الخارجية الأميركية لا يمثل الأغلبية على المنصة.
ولم يوفر الذين يتهمون تيك توك بالتحيز أي أدلة مقنعة على أن خوارزمية تيك توك تروج للمحتوى الفلسطيني على حساب الإسرائيلي حتى الآن.
ويبدو أن ما يمقته الناقدون هو أن مستخدمي التطبيق قادرون على مشاهدة الأخبار والصور المقبلة من غزة، ومن ثم تشكيل رأي واستنتاجات خاصة تختلف بالضرورة عن السردية التي تروج لها قنوات الأخبار الغربية، والسياقات التي تضع فيها المحتوى.
ومن المناسب الإشارة لما قاله إيلون ماسك، في مقابلة مع دون ليمون، عن ضرورة التفريق بين خطاب الكراهية والخطاب المخالف للقانون، حيث قال إنه غير معني بما ينشر إلا إن خالف القانون، وأضاف أن وجود المحتوى الذي يعده بعضهم خطاب كراهية على منصة إكس لا يعني تبني الخطاب ولا الترويج له، لكنه يدخل في باب حرية التعبير، وهي حق دستوري لكل أميركي.
ومن المهم ذكر أن ما ينتقده معارضو تيك توك موجود في منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، فإذا كان الوسم الداعم لفلسطين أكثر بـ10 مرات من الوسم الداعم لإسرائيل على إكس، فإنه أكثر بـ39 مرة على فيسبوك، وبـ26 مرة على إنستغرام وفقا لصحيفة واشنطن بوست.
الترويج للسردية الإسرائيلية
إذا كان هناك حملة ترويج حقيقية على الإنترنت فهي لصالح إسرائيل، فقد دفعت منظمات مرتبطة بإسرائيل لممثلين وصُناع محتوى لترويج سرديتها عن الحرب، ومنهم من تحدث عن ذلك علنا وكشف أنهم تلقوا عروضا ورفضوها، ونشرت دعايات في ألعاب الأطفال.
والأهم من ذلك كله الحظر المستمر الذي يتعرض له المحتوى الداعم لفلسطين على منصات التواصل الاجتماعي المشهورة أميركية الأصل، وعلى رأسها فيسبوك وإنستغرام وواتساب ويوتيوب وإكس (تويتر سابقا).
كما أن المنصة نفسها تعرضت لانتقاد حاد بسبب هذه الممارسة، وفق مقال لرويترز، حتى الحكومة الماليزية هددت باتخاذ إجراءات قانونية ضد تيك توك وميتا، إذا ما استمرت المنصات بحظر وحجب المحتوى المناصر لفلسطين.
وبالتالي فإن انتشار المحتوى الفلسطيني ونجاحه يعود بشكل كبير لتحايل صُناع المحتوى المناصرين لفلسطين على الخوارزميات باستخدام الرموز والأرقام في الكلمات التي قد تسبب الحظر، وليس بسبب تحيز المنصات لفلسطين، حسب ادعاءات بعضهم وعكس ما تظهره الأدلة.