يا عابد الحرمين لو أبصرتهم!!
ساهر غزاوي
في خضم المآسي التي تعيشها الأمتين العربية والإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وخاصة ما يعيشه قطاع غزة من مآسي كبرى جرّاء الحصار المفروض عليه منذ 17 عامًا، وجرّاء ما يعانيه من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمرة منذ ستة أشهر، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب الحرم المكي الشريف، ورئيس الشؤون الدينية في المسجد الحرام والمسجد النبوي، وهو يتحدث عن طعامه المفضل في رمضان، في مقطع أثار جدًلا واسعًا. ويظهر السديس في الفيديو وهو يتحدث بلهجة ونبرة حماسية عن برنامجه الغذائي في شهر رمضان. وبدا وجهه بالكامل مبتسمًا، وتعابير وجهه تكشف عن سعادته الغامرة بهذا الحديث. ويقول السديس في الفيديو المنتشر إن طعامه المفضل في رمضان هو “السمبوسة” وحسائه المفضل هي “الشوربة”، مع وضع قليل من الفلفل وزيت الزيتون مراعاة للصوت والحبال الصوتية.
ومن باب إحقاق الحق ومعرفة الحقيقة، عندما تتبعت أصل مقطع فيديو المنتشر الذي أثار هجومًا واسعًا على السديس، تبين أن هذا المقطع مجتزأ من مقابلة مدتها 15 دقيقة أجراها الشيخ السديس من داخل الحرم المكي مع قناة الإخبارية السعودية قبل أسبوعين، تحت عنوان: “خدام الحرم”. واستضافت القناة السديس للحديث عن طقوس أئمة الحرم في رمضان، وكيف يتهيئون للصلاة.
إلى هنا الأمر طبيعي نوعًا ما، وتلذذ إمام الحرم المكي في الحديث عن برنامجه الغذائي وطعامه المفضل ومكونات فطوره بوجهه المبتسم لم يأخذ أكثر من دقيقة واحدة من أصل 15 دقيقة، وهي مدة الفيديو الكامل. لكن اقتطاع فيديو من سياق هذه المقابلة الطويلة وانتشاره في مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، والتفاعل السلبي معه، يعبر عن مشاعر السخط والغضب الكبيرين من موقف إمام الحرم المكي تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة. هذا الموقف الذي أقل ما يقال عنه إنه “موقف صامت” وإن لم يكن موقفًا متخاذلًا. وإلا لما أخذ هذا المقطع المجتزأ من سياق فيديو طويل كل هذا التفاعل السلبي، وما استدعى أن يحمل هذا الأمر أكثر مما يحتمل.
بطبيعة الحال فإن موقف إمام وخطيب الحرم المكي الشريف، ورئيس الشؤون الدينية في المسجد الحرام والمسجد النبوي- أي بمرتبة وزير في البلاط الملكي السعودي- يعكس سياسة المملكة العربية السعودية بقيادة ولي أمره وولي عهده وحاشيتهما في البلاط الملكي تجاه ما يحصل في غزة. هذه السياسة التي فرضت رقابة مشددة على المواطنين السعوديين ولم تسمح لهم بالخروج ولو بمسيرة متواضعة للتعبير عن التضامن مع أشقائهم الفلسطينيين، أبناء عروبتهم وإسلامهم، والتنديد بحرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع المحاصر. وهذه السياسة التي لم تساهم حتى الآن بتخفيف المعاناة والكارثة الإنسانية التي حلت على الغزيين ولم تستطع إدخال شاحنات الإغاثة والمساعدات الإنسانية عبر معبر رفح الذي تسيطر عليه “الشقيقة” مصر لإنقاذ أهل غزة من الكارثة الإنسانية وحرب الإبادة الجماعية. بل إن هذه السياسة، إلى جانب بعض الدول العربية، عملت على عرقلة مقترحات تدعو أعضاء جامعة الدول العربية إلى تجميد العلاقات الدبلوماسية والتجارة مع إسرائيل، وحظر استخدام المجال الجوي والقواعد العسكرية الأمريكية لإعادة إمداد الجيش الإسرائيلي، والتعبير علنًا عن رغبتها في تطبيق الحظر على النفط.
إن لسان حال ومقال كثرة المتفاعلين سلبيًا مع فيديو “سمبوسة وشوربة” السديس يقول: يا عابد الحرمين لو أبصرت مئات آلاف الغزيين يتضورون جوعًا وأنت بدون خجل تتلذذ بطعام الإفطار وتتحدث عن مكونات فطورك وحسائك المفضل وأنت تعلم بحال إخوانك في غزة والكل يعلم أنك تعلم!!
في السياق، يحضرنا قصيدة للإمام العابد المجاهد عبد الله بن المبارك التي أرسلها للفضيل بن عياض، رحمهما الله، أحد أعلام أهل السنة وكان لقبه “عابد الحرمين” لاعتكافه بين مكة تارة والمدينة تارة، وكان يحثه فيها على الرباط في الثغور، والقتال مع المسلمين في الجبهات، فلما قرأها الفضيل بكى، وقال: “صدق أبو عبد الرحمن ونصح”، رغم أن الفضيل كان أتقى أهل زمانه، كما قيل. وجاء في القصيدة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعملت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضب جيدَه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يُتعِبُ خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهجع السنابك والغبار الأطيب
من المفارقات العجيبة أن مشاعر السخط والغضب الكبيرين من موقف إمام الحرم المكي (عابد الحرمين) في زمننا ليست على انشغاله في الاعتكاف والصلاة والتعبد في حرمي مكة والمدينة، ولو كان الأمر كذلك لكان الحسد على هذه النعمة حسد غبطة وليس حسد زوال النعمة. إنما لتسليط الضوء المتعمد على انغماس وانشغال “خدام الحرمين” و “عُبّاد الحرمين” بأمور ومسائل أقل ما يقال عنها أنها “مخجلة وتافهة” وتسليط الضوء عليها وكأنها تتصدر اهتمامات رأي عام الشعب في بلاد الحرمين “المنقطع” عن هموم وقضايا أمته وعالمه العربي والإسلامي وعلى رأس ذلك ما يحصل في غزة. لكنها في الحقيقة تعكس سياسة النظام الحاكم، وتعكس مخطط استهداف الإعلام النجوم من الدعاة البارزين والقدوات الدينية واستخدامهم لتأدية الأدوار المشبوهة التي تثير الجدل والشكوك حولهم وتحرق أوراقهم وتزعزع الثقة بهم وتسقط هيبتهم الشخصية الاعتبارية الدينية من أعين الناس. والحديث يطول عن تسليط الضوء على أحد “خدام الحرم” وهو يفتتح صالة قمار.. وأيضًا عن الاستقبال المهيب لمغنية لبنانية في مطار الرياض حتى تتصدر الترند في مواقع التواصل الاجتماعي لـ “تواضعها” ومشاركة المستقبلين في الرقص منذ وصولها المطار على أنغام فرقة شعبية سعودية!!