“سلاح التجويع”.. وسيلة لحرب الإبادة الجماعية
ساهر غزاوي
تستخدم إسرائيل في حربها الإنتقامية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أسلحة محرمة دوليًا شديدة الفتك والدمار كعامل أساسي في حسم المعركة وتحقيق أهدافها، ولكن الحرب متواصلة منذ ستة أشهر ولم تحقق أيّا من أهدافها. ويبزر في هذه الحرب سلاح التجويع شديد الفتك والإبادة والإفناء، وقد عُرف سلاح التجويع كوسيلة من وسائل الحرب منذ زمن بعيد. وإن تاريخ الحرب مليء بأمثلة على الخطط العسكرية المستخدمة عمدًا بهدف تجويع جيوش “العدو” أو السكان المدنيين، كما يحصل الآن في الحرب على غزة.
منذ اليوم الأول للحرب، لجأت إسرائيل إلى استخدام سلاح التجويع المحرم دوليًا لتوظيفه في جريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق السكان المدنيين في غزة من خلال فرض حصار كامل على القطاع. وبذلك تُطبق حرفيًا أوامر وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، التي أصدرها في حينه إذ قال: “لقد أعطيت أمرًا: غزة ستكون تحت حصار تام لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق”. كما أنها استجابة لجنرالات وسياسيون إسرائيليون الذين يطالبون بعدم التخلي عن “سياسة التجويع” في غزة.
وعلى مدار ستة أشهر، لا تزال تتبع إسرائيل سياسة الأرض المحروقة في غزة، فدمرت المحاصيل الزراعية ومنعت السكان المدنيين من الوصول لها، وأغلقت المعابر ومنعت دخول شاحنات المساعدات الإغاثية الإنسانية، كما قصفت الطائرات الإسرائيلية الأشجار المثمرة والمزارع والحقول، وخزانات المياه، ومنعت دخول جميع الشاحنات التي تحمل مواد غذائية إلى أهالي القطاع.
وبحسب ما صدر من تقارير صحافية، فإن عدد شاحنات المساعدة الإنسانية التي سُمح لها بالدخول خلال شهر كامل، هو ما كان يصل غزة في اليوم الواحد ليكفي احتياجات سكانها.
وإذا كانت وكالات الأنباء والمنظمات الإنسانية تتحدث عن خطر المجاعة الذي يتهدد غزة بسبب استخدام إسرائيل سلاح التجويع ضد سكانها، فإن شبح المجاعة صار يُخيم على أكثر من مليوني إنسان في غزة، وصارت المجاعة واقعًا يُطاردهم بسبب شُح المساعدات وفي ظل مشقة بالغة في توفير المواد الغذائية لشُحها وارتفاع أسعار المتوفر منها، وخاصة القمح، والذي إن توفر لا يجد مطاحن لطحنه، بل إن القمح المتوفر مخصص لإطعام المواشي ولا يصلح للاستخدام البشري، لكن العديد من السكان المنتظرين لدورهم في الطابور أمام المطحنة، يشترونه مضطرين لعدم توفر البديل.
وفي ظل أوضاع معيشية واقتصادية بالغة السوء، بدأت أعداد الوفيات بالارتفاع نتيجة حالات الجفاف أو سوء التغذية، وانتشار واسع للأمراض، نتيجة شرب المياه الملوثة وغيرها. ووصلت مرحلة الجوع والعطش بأهل غزة إلى أن يخلط الأطفال مياه البحر بالسكر ليسدوا رمقهم من سلاح التجويع المحرم الذي لا يرحم!!
ومع تسارع استخدام إسرائيل لسلاح التجويع المحرم دوليًا منذ أحداث السابع من أكتوبر الماضي، سارعت أيضًا 11 دولة بالإعلان عن تعليق تمويلها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في أعقاب ادعاءات إسرائيلية لـ 12 من موظفيها من الفلسطينيين بالمشاركة في عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر. مع أن إسرائيل لم تقدم رسميًا للأمم المتحدة بعد ملفها بشأن اتهام موظفين من وكالة الأونروا بغزة، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام!! وهو ما يدل على أن وقف تمويل الأونروا هو المرحلة الأخيرة من الإبادة الجماعية لأهل غزة، وهو ما يزيد الحصار الإسرائيلي ويعمق معاناة السكان المدنيين في غزة ويفاقم شبح المجاعة الذي صار يُخيم على قطاع غزة نتيجة لاستخدام سلاح التجويع المحرم دوليًا.
ولا يفوتنا القول، إن سلاح التجويع المحرم ضد قطاع غزة لم يكن أمرًا مستجدًا على السياسة الإسرائيلية، فقد بدأت باستخدام هذا السلاح، وإن كان أقل وتيرة مما عليه اليوم، منذ 17 عامًا بسبب حصار فرضته إسرائيل وأمريكا ودول أوروبية إلى جانب تواطؤ الكثير من الأنظمة العربية الرسمية، لا لشيء إلا لأن الشعب الفلسطيني صاحب الحق الشرعي في وطنه هو من قرر شكل السلطة التي يريدها بشكل حر وبدون تدخل خارجي وبدون شروط ولا إملاءات من أي جهات كانت. فشحت المواد الغذائية في غزة، وتقيدت حركة سكانها، لكن لم يصل الأمر يومًا إلى أن جاع أهلها كما يحدث الآن!!
يحظر القانون الدولي الإنساني الذي حظرًا مطلقًا تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. وتنص المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي تنص على أن “إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، ينطبق عليه مفهوم الإبادة الجماعية”. وتنص المادة 55 و59 على “ضرورة تموين السكان بالمؤن الغذائية وأن لا تحول الدول دون وصول الإمدادات الغذائية، والسماح لعمليات الإغاثة لمصلحة السكان”. وعلى هذا الأساس، اعتبرت الأمم المتحدة استخدام إسرائيل سلاح التجويع في غزة جريمة حرب. لكن هذه العبارات الجميلة والشعارات الرنانة لا تزال تستخدم لحشو البيانات والتصريحات الإعلامية لا أكثر دون أي تحرك على أرض الواقع. ولا يوجد تفسير لذلك سوا أن استخدام سلاح التجويع مسموح به ومبرر طالما أنها تمس شعوب “العالم الثالث” التي يكفي معها فقط الاستنكار والإقرار بالعجز.