من أعطاك هذا التفويض؟
ليلى غليون
للظلم أشكال عدة وصور متنوعة، ومن صوره أن تنصب نفسك قاضيًا وتصدر أحكامك المسبقة على الغير بلا معرفة أو بينة، معتمدًا بذلك على هيئتهم أو على كلمة عنهم سمعتها من أحدهم، أو سوء ظن منك، أو نظرة سطحية، لتصفهم بصفات سلبية بعيدة عنهم كل البعد، بل ومناقضة لحقيقتهم وواقعهم، فتكون بذلك قد ارتكبت بحقهم جرمًا وظلمًا عظيمًا وحملت على عاتقك من الأوزار ما يعلم بثقلها إلا الله تعالى.
فأغلب الأحكام المسبقة على الناس عادة ما تكون خاطئة وظالمة ومن صنع الخيال، لأنها تفتقر إلى الأدلة القاطعة، ومصدرها ليس إلا السطحية وربما العبثية والتسلية بشؤون الغير أو مرض في القلب هو سوء الظن.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”، فما أعظم دلالة هذا الحديث الذي وصف الظن بأكذب الحديث، وعندما سئل صلى الله عليه وسلم: “أيكون المؤمن كذّابًا؟ قال: لا. لأن الكذب رأس كل خطيئة”.
يقول أوسكار وايلد “كاتب وشاعر إيرلندي”: “السطحيون وحدهم من يحكمون على الناس من مظهرهم الخارجي، وربما من أصعب المعارك هي التي تدفعك لتحكم على قرارات لم تعرف ماذا كانت اختياراتهم عند خوضها، لذلك دائما الشخصية المتسرعة في الحكم تقع في حرج إذ أنها تخطئ في الظن ومن ثم يجب أن تعتذر وتصبح من كثيري الاعتذار للآخرين”.
فالتسرع بإصدار الأحكام والذي ربما مصدره سوء الظن، يعرض صاحبه للحرج أولًا والإحساس بالذنب ثانيًا والندم ثالثًا، ولات حين مندم، فقد تظلم بريئًا وتبرئ ظالمًا، وترفع من قدر سفيه وتزدري عالمًا، أو قد تسبب في اشتعال فتيل المشاكل بين الناس والأخطر منها المشاكل الزوجية والأسرية، فكما لا يمكن استرجاع السهم بعد انطلاقه، فلا يمكن كذلك استرجاع القرارات بعد صدورها، ولا الكلمات بعد نطقها ولا رد الخطأ بعد حدوثه.
فلا أبالغ لو قلت أن أغلبنا قد وقع في فخ التسرع وإبداء الرأي والحكم على الآخرين من خلال مظهرهم أو بعض سلوكياتهم من غير تريث ولا تثبت ولا تعمق أو معرفة الظروف والأسباب التي دفعتهم لمثل هذه التصرفات، لتنطلق مسبقًا الأحكام القاسية التي لا تستند إلى دليل، والظنون السيئة المبنية على الأوهام، والتي تكون بمثابة اللغم الذي يدمر العلاقات بين الأفراد ويفجر الصلات المجتمعية ويفكك الروابط بين العائلات ويزرع الكراهية والقطيعة بين الناس، خاصة الحكم على أشخاص من أول نظرة تجعلهم في مرمى سوء الظن البعيد عن الحقيقة.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “ما اعتمد أحد أمرًا إذا هم بشيء مثل التثبت فإنه متى عمل بواقعه من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم …”.
فكم من الحماقات ترتكب بسبب التسرع في الحكم، وكم من المشاكل والخلافات اشتعل أوارها بين الأفراد بسبب التهور والعجلة، وكم من بيوت وأسر هدمت وأصبحت خرابًا لنفس الأسباب، وكم من شخص حكمت عليه اعتمادًا على كلام سمعته من آخرين، وعندما قابلته وجدت حقيقته مغايرة تمامًا لما سمعت عنه واكتشفت بنفسك عمق الخطأ الذي وقعت فيه بحقه، وكم من شخص حكمت عليه غيابيًا أنه متكبر مثلًا أو أنه بخيل وغيرها من الصفات القبيحة، وعندما جالسته وخالطه وجدته عكس ما كنت تعتقد، واكتشفت حينها أن الانطباع الأول الذي رسمته في ذهنك عنه وحكمت عليه من خلاله، ما هو إلا انطباع سطحي وحكم خاطئ بل وظالم.
فعن سهل بن سعد الساعدي، قَالَ:مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا: في هذا نقول: هذا من أشرف الناس هذا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ، أَنْ يُخطب، وَإِنْ شَفَعَ، أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لقوله، فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّ رَجُلٌ آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا: نقول: والله يا رسول الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ، لمَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ، لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ، أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا”.
والسؤال الذي يجب أن يسأل: عندما تصدر حكمك على شخص ما من خلال نظرتك الأولى له أو من خلال كلمة سمعتها عنه، فهل فيك أنت من الخصال والمحاسن ما تتفوق عليه؟ ومن قال أن نظرتك هذه صائبة؟ بل من خولك وأعطاك هذا التفويض لتحكم عليه بما حكمت ومن نصبك عليه قاضيًا؟ وهل يعد كافيًا أن تعرف معادن الناس من مجرد النظر إليهم أو من مظهرهم دون الاختلاط بهم ومعاشرتهم؟
سأل عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه عن رجل ما إذا كان أحد الحاضرين يعرفه، فقام رجل وقال: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لعلك جاره، فالجار أعلم النّاس بأخلاق جيرانه؟ فقال الرّجل: لا، فقال عمر: لعلك صاحبته في سفر، فالأسفار مكشفة للطباع؟ فقال الرجل: لا، فقال عمر: لعلك تاجرت معه، فعاملته بالدرهم والدّينارِ، فالدّرهم والدّينار يكشفان معادن الرّجال؟ فقال الرّجل: لا، فقال عمر: لعلّك رأيته في المسجد يهز رأسه قائمًا وقاعدًا؟ فقال الرّجل: أجل، فقال عمر: اجلس فإنك لا تعرفه؟
فلا تجعل من المظاهر والشكليات متكأ للحكم على الناس أو تصنيفهم فتظلمهم وتبخسهم حقوقهم، فغالبًا ما ترى منهم إلا جزءً من الحقيقة، والنفوس مليئة بالأسرار والخفايا لا يعلمها إلا علام الغيوب وترفض أن يطلع على حقيقتها الغير وهذا حق مشروع لها، وقبل أن تنصب نفسك قاضيًا وتشرق وتغرب في أحكامك على الناس، تذكر أنك أنت عرضة لأحكام الناس عليك، فما لا تقبله لنفسك، ارفضه لغيرك، وما تكرهه لنفسك فابغضه لغيرك، واعلم أنّ السهم الجارح الذي تطلقه من جعبة سوء ظنك قد يرتد إليك يوما ما وبنفس القسوة أو ربما أعظم منها فالظلم عاقبته وخيمة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”.