معركة الوعي (194) استهدافٌ.. لا أهداف
حامد اغبارية
(1)
وأنت تستعرضُ التفاصيل اليومية لـ 132 يوما من أيام الحرب المجنونة التي تشنّها تل أبيب على قطاع غزة، وتراجع التفاصيل الدقيقة، ثم تعرض هذه التفاصيل على ما يتناوله الإعلام العبري، وما تردّده قيادات المؤسسة الإسرائيلية السياسية والعسكرية، تقف مندهشا، فاغرًا فاكَ، مصدومًا، غير مصدّق لما تسمع أذناك. ذلك أن ما تسمعه أذناك لا علاقة له بما تراه عيناك.
يوميّا تتصدّر كتيبة الإعلام الإسرائيلية المشهد الإعلامي الإسرائيلي لتنقل للمُشاهد الغبيّ قصص “الإنجازات” التي يحققها الجيش في غزة؛ إنجازات دون صورة، لا ثابتة ولا متحركة، لا فوتوغرافيّة ولا تلفزيونية تؤكدها وتثبت أنها حقيقية. ويبدو لك إعلاميّو الاستوديوهات في دولة تل أبيب الاشكنازيّة كجوقة أطفال تردد أنشودة طُلب منها أن تحفظها غيبًا. ومثلهم القيادات بدءا من نتنياهو، مرورا بجلانت وجانتس وهليفي وانتهاء بلبيد وبن غفير.
فهل يصدّق القطيع؟ أم أن هناك من له رأي آخر؟ أم أن هناك من يرى المشهد بصورة مختلفة، يراه على حقيقته؟
حال الشارع الإسرائيلي في غالبيّته حتى هذه اللحظة حال القطيع. يصدّق دون أن يسأل أو يشكّك ولو تلميحًا. أو هو يريد أن يصدّق لكنّه لا يرى شيئا على أرض الواقع. ومع ذلك يواصل الشرب من ذات الكأس، وهو يمنّي النّفس: ربّما…
السؤال: إذا كان عضو في حكومة نتنياهو، هو سموطرتش، قد قال على الملأ إن نتنياهو كذاب ابن كذاب؛ وإذا كان لبيد قد اتهم نتنياهو بخداع الجمهور وبالكذب؛ وإذا كان الإعلاميون أنفسهم يكذّب بعضُهم بعضًا في جلسة حوار واحدة، وعلى كل القنوات التلفزيونية والراديو ووسائل التواصل، فماذا نقول أنا وأنت؟
(2)
منذ اللحظة الأولى للحرب، وأثناء القصف الجوي المجنون وغير المسبوق بأطنان القنابل، ثم بعد الدخول البري، كان واضحًا أن استراتيجية الجيش الإسرائيلي هي الانتقام من كل شيء في غزة: البشر والحجر والشجر وكل كائن حيّ.
بحثنا وفتشنا (بسراج وفتيلة) ولم نجد دليلا واحدا يؤكد “إنجازات” جيش الاحتلال التي يعرضونها على جمهورهم المصدوم على مدار الساعة، ولم يقدم هو دليلا، كما لم يقدم إنجازا عسكريا واحدا له علاقة بالأهداف المعلنة، التي ما يفتأ نتنياهو وحاشيته يرددونها ويؤكدون عليها. وهذا الحال ينطبق عليه المثل: تسمع جعجعة ولا ترى طحنا. تسمع كلاما بينما ترى الدنيا كلها في الواقع مشاهد أخرى…. فما الذي تراه شعوب الأرض في قطاع غزّة؟
(3)
شعوب الأرض في جهاتها الأربع ترى شيئا واحدا: تدمير كل أسباب الحياة في قطاع غزة.
– ترى استهداف المستقبل بقتل آلاف الأطفال الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يعيشون في غزة وينتمون إلى شعب اسمه الشعب الفلسطيني. أطفال بينهم رُضّعٌ لم يفقهوا من الحياة شيئا، ولا يدركون حتى للموت معنى.
وأطفال يحلمون بقطعة حلوى ونزهة على شاطئ البحر وهدية صغيرة وزيارة لبيت جدّهم وملابس جديدة متواضعة تدخل عليهم السرور ولقاء مع الأتراب في الروضة أو في المدرسة.
– ترى استهداف الأرحام بقتل آلاف النساء، بينهن حوامل على وشك الولادة، وعرائس لم يمض على زفافهن أيام، وطالبات ثانوية متفوقات كنّ يحلمن بالالتحاق بالجامعة، وأمهات كنّ يجهزن لزفاف أبنائهن..
– ترى استهداف الخبرة الإنسانية والأصالة بقتل آلاف الشيّوخ الذين أفنوْا أعمارهم من أجل أبنائهم ومجتمعهم، وقدموا لهم زهرة شبابهم كي يصنعوا لهم مستقبلا كريما.
– ترى استهداف العنفوان بقتل الشبان الذين هم عماد مجتمعهم وأمل شعبهم وبُناة مستقبله.
– ترى استهداف كل ما يمكن أن يشكل سببا للحياة: استهداف المباني السكنية كي لا يبقى لأصحابه مكان يأوون إليه، ثم يكون التشريد من مكان إلى مكان، ثم استهداف كل مكان يلجأ إليه هؤلاء.. حتى لا يبقى مكان للجوء… وكأن الهدف هو خلق حالة من اليأس والسخط والانفجار..
– ترى استهداف المرافق الحيوية: الماء والكهرباء والأسواق والمخابز. وكأن الهدف هو الموت جوعا وعطشا..
– ترى استهداف المساجد، بيوت الله الشامخة بمآذنها، تلك المساجد التي لم تعد، في غزة تحديدا، مجرد أماكن للصلاة، بل جامعات لتخريج عشرات الآلاف من حفظة القرآن، وتربية النفوس وتزكيتها وبناء الإنسان الصلب الذي لا تلين له قناة ولا ينكسر ولا يطأطئ لظالم حتى لو مات جوعا وعطشا.
– ترى استهداف المدارس وتسويتها بالأرض، بل دفنها تحت الأرض، وكأن الهدف هو تعطيل كل سبب من أسباب اكتساب العلم الذي يصنع الحاضر والمستقبل.
– ترى استهداف الجامعات التي هي مناراتُ علم يتخرج منها خيرة أهل الأرض قاطبة، وهي مراكز أبحاث تصنع الحياة من لا شيء في غزة تحديدا دون غيرها.
– ترى استهداف أماكن الإيواء التي نزح إليها الناس، وكأن الهدف هو إبقاؤهم في العراء تحت البرد والأمطار يفترشون الوحل والحُفر التي ملأتها السيول، وغطاؤهم السماء المكفهرّة.
– ترى استهداف المستشفيات التي ليس لها سوى وظيفة واحدة: تطبيب الناس وإنقاذ حياتهم. وكأن الهدف هو منع كل وسيلة يمكن أن تُسهم في إنقاذ مريض كِلى أو مريض سرطان أو حامل على وشك الولادة أو جريح كتبت له النجاة من قنبلة ألقتها طائرة حربية فوق بيته فسوّته بالأرض وحوّلته إلى ركام وحوّلت حياته إلى حطام..
– ترى استهداف سيارات الإسعاف وطواقم الإنقاذ لمنعها من الوصول إلى أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ وهي تأمل أن تجد بين هذه الأشلاء ما يمكن إنقاذه.
– ترى استهداف الكائنات الحيّة برصاص القناصة، من المواشي وغيرها، وكأن القناص الذي أطلق عليها قد حدّثته نفسه: يجب ألا تبقى هذه على قيد الحياة، لأنها قد تكون سببا في حياة طفل غزّي بحليبها أو لحومها
وشحومها. وربما قال في نفسه: ربما أيضا يستخدمون صوفها لباسا وجلدها فراشا. لذلك يجب أن تموت.
– ترى استهداف قوارب الصيد على شاطئ غزة. ففي البحر أسماك. وهذه الأسماك تؤكل، ولذلك يجب ألا تكون هناك وسيلة لاصطياد الأسماك، التي يمكن أن تكون سببا للحياة.
– ترى استهداف الصحافيين والإعلاميين، لأنهم هم، دون غيرهم، الذي ينقلون لشعوب الأرض ما يحدث على الأرض. ينقلون حقيقة ما يجري في غزة بالصوت والصورة والتحليل العلمي والموضوعي…
إنه استهدافٌ وليست أهدافًا. استهدافٌ رأيناه ورأينا آثاره ونتائجه عيانا، بالصوت والصورة، دون أهدافٍ أُعلنَ عنها صوتًا ولم نر لها صورة ولا أثرًا ولا شبه أثر…
هو استهداف لكل شيء في غزة يمكن أن يمدّ أهلها، نساءها وأطفالها ورجالها، بسبب من أسباب الحياة مهما كان ضئيلا.
هو استهدافٌ الهدفُ منه خلقُ حالة من الغياب القهري لبقعة جغرافيّة لا تكاد تُرى على خريطة العالم المنافق، لكنّها- يا للعجب- جعلت هذا العالم يراها رغم أنفه.
هو استهدافٌ الهدفُ منه الإخلاء والإخفاء والإحلال. إخلاء الأرض من أهلها وإخفاء معالم هوية المكان وإحلال المستوطنات فيه.
هو استهدافٌ الهدفُ منه خلق حالة من اليأس والقنوط والسخط على الذات…
فهل ينجح الاستهداف بما فلشت في تحقيقه الأهداف؟
حتى هذه اللحظة ما تزال غزة تنبض بالحياة رغم مشاهد الموت التي تحاصرها.