أزماتنا الاقتصادية.. وطوق النجاة
ليلى غليون
تعيش بيوت وأسر كثيرة في أيامنا هذه أوضاعًا معيشية صعبة نظرًا للظروف الراهنة واستفحال غول الغلاء وارتفاع نسبة البطالة التي تزداد وتيرتها بصورة مقلقة، ليزداد الضغط والإرهاق النفسي والاجتماعي على أفراد هذه الأسر وذلك لتدني المستوى المعيشي الذي اعتادت عليه في الأيام الخالية، خصوصًا أرباب الأسر الذين يقع على كواهلهم الحمل الأكبر من مسؤولية الإعالة والانفاق ومسؤولية توفير الاحتياجات الأساسية للعائلة وغيرها من المسؤوليات التي لا تعد ولا تحصى، ويصل الضغط النفسي ذروته حين يجد رب الأسرة نفسه عاجزًا أمام قائمة المتطلبات الكثيرة وطلبات الأبناء التي لا تنتهي، خاصة وإن إغراءات الشراء والاستهلاك والدعاية والإعلان تعمل على قدم وساق بدون توقف، من أجل إنتاج إنسان مستهلك، همه الاستهلاك من أجل الاستهلاك وليس الاستهلاك من أجل الحاجة أو الضرورة.
وعليه فإنها بعض النصائح المتواضعة علّها تساهم في تخفيف ولو القليل من الضغوطات النفسية في ظل هذه الأزمات التي ألقت بظلالها على العديد من الأسر.
إننا وتحت وطأة مثل هذه الأوضاع الاقتصادية العسيرة (وحتى في الأوضاع الميسورة) فإنّ الواجب يحتم علينا اتباع سياسة الاقتصاد المنزلي والتركيز على اقتناء الحاجيات الضرورية والعمل على الموازنة الحكيمة للمصروفات مع المدخولات المالية، لأنّ هذا حتما سيؤدي إلى استقرار اقتصادي ولو نسبي للعائلة بعيدًا عن الضغوطات العصبية التي يسببها تراكم الديون والقروض عند شراء ما هو ضروري وغير ضروري، أو عندما يضغط أصحاب الديون لسداد ديونهم وهذا مما لا شك فيه من حقهم.
والاقتصاد في الاستهلاك نصف المعيشة كما أخبر بذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذه الوصية الاقتصادية النبوية، تجنب بالتأكيد الأسر الأزمات المعيشية التي يكتوي الكثير هذه الأيام من لسعاتها، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم مجال الاعتدال والوسطية حيث قال: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير اسراف ولا مخيلة) وفي الحقيقة، فإن الكثير من الأسر وحتى الفقيرة منها، تسعى لأن تعيش في مستوى لا قبل لها على تكلفته كما لو كانت غنية، وهنا مربط الفرس ومكمن الخلل، بل هو عين الخطر الذي يهدد الاستقرار الاقتصادي للعائلة والذي بدوره سيؤدي ليس إلى المزيد من تراكم الديون فقط ، بل إلى المزيد من العنت والمشاكل والخلافات الزوجية وحالات التفكك الأسري وخراب البيوت وتشتت الأبناء.
فهذه المرأة مثلًا والتي تعيش أسرتها على مخصصات التأمين أو مخصصات البطالة التي يتقاضاها زوجها أو مرتب محدود، بالكاد تستطيع توفير الاحتياجات الضرورية للبيت، ولكنها في نفس الوقت تريد أن تقلد جارتها أو تباهي سلفتها أو صديقتها التي تعيش في رفاهية، فتقتني من الأشياء ما لا يمكن لها سداده إلا بالاستعانة بالقروض وما أدراك ما عاقبة القروض!! مما يضطرها إلى الاستدانة وربما من أكثر من مصدر، وربما من غير علم زوجها لتكون الطامة الكبرى على هذا الزوج المسكين الذي أصبح محاصرًا ومطالبا ومن أكثر من جهة لسداد ديون زوجته، لتكون النتيجة بل الطامة الكبرى على الزوجة والأسرة بأكملها، أو ربما أدى الأمر بسجن الزوج حين يتعذر سداد الدين.
وإذا كانت هناك حدود وضوابط للإنفاق على المسلم أن لا يتجاوزها في كل الأحوال المعيشية (الصعبة منها والموسعة) لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا…} فإن تطبيق هذه القاعدة القرآنية يجب أن يكون من باب أولى وقت الضائقة المعيشية والاقتصادية، لأنّها المخرج الوحيد لهذه الأزمات حيث التركيز على الضروريات فقط، أمّا الانفاق من أجل التقليد والمباهاة والنفاق والوجاهة الاجتماعية الكاذبة وإصرار متواضعي الدخل على معيشة مستوى الأغنياء، فحتمًا سيزيد الأزمة أزمات والضائقة ضائقات فضلًا عن الوقوع بمعصية الإسراف والتبذير المحرم المنهي عنه.
ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام الأسوة الحسنة في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والتأقلم معها مهما كانت صعبة، فقد عبروا مراحل عديدة من أزمات اقتصادية شديدة لم يكونوا ليعيشوا خلالها مستوى حياتهم الطبيعية، فقد كان له صلى الله عليه وسلم منهج يتبعه في حياته بصورة عامة وفي الأزمات بصورة خاصة، حيث كان صلى الله عليه وسلم نموذجًا للخشونة والصبر على الكفاف، فقد جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم) حتى إذا زالت النعم أو قلت، لا تحدث انقلابًا في حياة المسلم، لأنه عود نفسه وروضها على العيش المتواضع وخشونة الحياة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض).
فما بالنا نحن إذا شحت علينا الدنيا انقلبت أوضاعنا رأسا على عقب وكأننا من أبناء الدلال ما خلقنا إلا للرفاهية، وما لنا لا نتأسى بزوجات النبي رضوان الله عليهن عندما ضاقت عليهن سبل المعيشة فتظاهرن من أجل التوسعة في الرزق فنزل قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا* وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} سورة الأحزاب، فما كان منهن رضوان الله عليهن، إلا أن اخترن الله ورسوله بدون تردد، وما أعظم ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهله: (أو كلما اشتهيتم اشتريتم) وهذا درس لكل زوجة (ولكل زوج) بأن عليها دورًا مهمًا في حال تعرضت أسرتها لأزمة اقتصادية، أن تقتصد في النفقات وأن لا تحمل ميزانية الأسرة ما لا تطيق، ولتعلم أن تقوى الله وطاعته سبيل ميسر لجلب البركة في الرزق والسعادة، بعكس الذنوب والمعاصي التي تمحق البركة، ولتنهل من ينابيع السنة المطهرة التي تربي في النفس الصبر، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كل ما شئت، والبس، ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة).
القناعة كنز لا يفنى، والسعادة لا توهب، فأنت تصنعها، وهي كيف تجعل من نفسك سعيدًا وتدير أزماتك مهما كانت وكيفما كانت. اللهم ارزقنا القناعة وارزقنا غنى النفس وأهلّ علينا البركة في تقواك وطاعتك.