من معالم الكارثة الإنسانية بغزة
الشيخ رائد صلاح
كتبت هذه المقالة بتاريخ 2024.2.12 مؤكدًا أن الكارثة الإنسانية بغزة لا تزال تستفحل يومًا بعد يوم، وهي اليوم أضعاف ما كانت عليه قبل شهر، وأضعاف أضعاف ما كانت عليه في شهرها الأول، وهي تستفحل رغم القرارات المؤقتة لمحكمة العدل الدولية، وكأن هذه القرارات ما كانت وما نطقت بها محكمة يُشار إليها أنها حصن العدل الدولي الأخير، وها هي هذه الكارثة الإنسانية تستفحل رغم عشرات آلاف المظاهرات التي شهدتها الأرض بكل قاراتها دون استثناء، ورغم وجود أكثر من خمسين دولة مسلمة وأكثر من عشرين دولة عربية، ورغم وجود منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية، ورغم وجود هيئة الأمم المتحدة وما يتفرع عنها من مجالس ولجان ووكالات، ورغم وجود آلاف هيئات حقوق الإنسان والرفق بالحيوان ورعاية الطفولة وكرامة المرأة وحفظ المدنيين وتجريم الإبادة الجماعية، ورغم وجود إدانات دولية لا تُحصى، ورغم وجود مواثيق تُحذر من عواقب الجرائم ضد الإنسانية، ورغم وجود إعلام لا يزال ينقل بالبث المباشر بكل لغات الأرض معالم هذه الكارثة الإنسانية منذ لحظاتها الأولى، ومع ذلك كانت ولا تزال هذه الكارثة الإنسانية تستفحل، ولا تزال معالمها تتفاقم عددًا وآثارًا وتبعات،
وبات من الصعب على أي مراقب مُنصف أن ينجح بتوثيق هذه الكارثة الإنسانية وإحصاء عدد معالمها وأرقام حصادها المأساوي، ومع ذلك أؤكد أن معالم هذه الكارثة الإنسانية هي ما يلي:
1. صباح اليوم الذي كتبت فيه هذه المقالة كان مكتوبٌ على شريط قناة الجزيرة الإخباري أنّ عدد ضحايا هذه الكارثة الإنسانية الذين تم إحصاؤهم بلغ (28,176)، وأن عدد جرحاها الذين تم إحصاؤهم بلغ (67،716)، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود عدد بالآلاف وقد يكون أكثر من ضحايا هذه الكارثة الإنسانية لا يزالون تحت الأنقاض، وقد بات من المُستبعد العثور عليهم والتعرف على أسمائهم والقدرة على إحصائهم، وهذا يعني أن من كارثية هذه الكارثة الإنسانية أنها لا تزال مجهولة في بعض جوانبها، ولا تزال غامضة في بعض مشاهدها، وسيفشل المؤرخون بالكتابة عن هذه الجوانب المجهولة أرقامها، والمشاهد الغامضة أحوالها إلا تقديرًا .. وإلى الله المُشتكى.
2. لقد جَرَّت هذه الكارثة الإنسانية وما حملت من عدد هؤلاء الضحايا والجرحى المُرشح للزيادة إلى تفكيك كل حمائل غزة وأسرها، فهي الحمائل التي باتت تنظر إلى نفسها فلا تجد إلا القليل الذي بقي منها، وما سوى ذلك هم بين قتيل وجريح ومفقود تحت الأنقاض أو مفقود حي مجهول المصير، وهي كل أسرة في غزة أصبحت مُشتتة في أحوال يعجز كل قلم عن تسجيل حالها، فإذا ما أرادت أن تحصي أفرادها قد لا تجد من لا يزال حيًا منها حتى يُحصي ما تبقى منها، وقد تجد واحدًا أو أثنين منها لا يزالون أحياء حتى الآن، وما سواهم فهم بين قتيل وجريح ومفقود، ويا للوعة هذه الأسر التي بات معظم أطفالها قتلى وأصبحت أسرًا بلا أطفال، أو أصبح أطفالها أيتام الأب والأم أو أيتام الأب أو أيتام الأم، ويا للوعة هذه الأسر التي لا تزال تودع أفرادها بالتدريج، فمنهم من قُتل في شمال قطاع غزة، ثم قُتل البعض منهم في وسطها، ثم قُتل البعض منهم في جنوبها، وكلما تعادّوا وجدوا نقصًا في عددهم، إلى حد يُهدد بانقراض آلاف الأسر، وكأنها ما خرجت إلى الحياة في يوم من الأيام، وكأنها ما عاشت بغزة، وما بنت لها بيتًا، وما كان لها حديقة تُحيط بيتها، وما كان لها أطفال يغدون ويروحون إلى المدرسة تارة وإلى الجامعة تارة أخرى وإلى الجامع تارة ثالثة وإلى شواطئ بحر غزة تارة رابعة وإلى أسواق غزة تارة خامسة، وكأن هذه الأسر المنقرضة ما فرحت بعيد ذات يوم، ولا خبزت كعك العيد ولا لبست الثوب الجديد، ولا ضحك أطفالها وهم يجلسون على مراجيح العيد وهي تُحلق بهم في سماء غزة.
3. لقد استفحل الجوع بين من لا يزالون أحياء ما بين لاجئ من شمال غزة إلى جنوبها، وما بين شريد ما عاد له بيت ولا أرض ولا حتى مسجد يُصلي فيه، وها هو هذا الجوع يشتد يومًا بعد يوم، ولو صبر الآباء والأمهات على آلام جوعهم، فماذا عن الأطفال، وماذا عن الرُضّع، وماذا عن المُسنين والمُسنات، ولذلك فقد اضطرت بعض الأسر الجائعة أن تأكل علف الحيوانات بعد أن ماتت حيواناتها تحت الأنقاض أو رميًا بالرصاص، وقد شاهدتُ من على شاشة الجزيرة كما شاهد الملايين غيري مشهد جندي إسرائيلي أطلق الرصاص على شاتين وأرادهما قتيلتين وسط أطلال الدمار بغزة، والويل ثم الويل لمن قد يتنطع ويقول: حرام أكل علف الحيوانات!!، ولا يسعُني إلا أن أقول له: إن المضطر يجوز له أكل الميتة والخنزير إذا وجد نفسه بين خيار الموت أو أكل واحد من هذين المُحرمين، فما بالك بعلف الحيوانات؟! ويا ليت كل الجائعين المحرومين من الطعام المضطرين بغزة قد وجدوا علف حيوانات، فحتى علف الحيوانات لم يجدوه، فماتوا فريسة الجوع، ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وسيكتب التاريخ أن جياعًا من الناس بغزة قد ماتوا جوعًا في الوقت الذي تتباهى فيه مدنية اليوم الجوفاء بشعارات الرفق بالحيوان، وفي الوقت الذي بنت فيه حكومات المسلمين والعرب قصور الرئاسة الشامخة وناطحات السحاب وأبراج الملاهي العملاقة والمراكز التجارية الفاتنة، لا بل في الوقت الذي تُقام فيه الآن مئات المُستشفيات والعيادات في العالم الإسلامي والعربي، لعلاج القطط والكلاب المريضة التي أصابها الزُكام.
4. وها هي معظم مُستشفيات غزة وعياداتها باتت مُدمرة، ولم يبق منها إلا العدد القليل، وبات هذا العدد القليل يقوم بدور مشلول، فلا يملك الأجهزة الطبية إلا ما ندر، ولا يملك الأدوية المطلوبة، لدرجة أن أحد المسؤولين الدوليين قال: إنّ ما يتوفر من أدوية بغزة اليوم هو قطرة من مجمل ما تحتاج إليه من أدوية، وماذا تنفع هذه القطرة وقد انتشرت الأوبئة وبات عددها يزداد، وباتت تزداد مساحة انتشارها، ثم ماذا تنفع هذه القطرة وقد ازداد عدد المُصابين ولا يزال يزداد، كما وازداد عدد المرضى ولا يزال يزداد، وماذا عن ضحايا الأوبئة، وماذا نقول بحال غزة وقد اجتمع في كارثتها الإنسانية الجوع والأوبئة وشح الأدوية وطول الحصار وتواصل القصف ومنع إدخال الطعام والماء والدواء والوقود وعلف الحيوانات والضروري من الأدوات الطبية.
5. يُقال إن الرئيس بايدن بدأت تظهر عليه أعراض الخرف، وعلى سبيل المثال عَرّف السيسي أنه رئيس المكسيك، ولعل المثال الآخر على خرفه أنه أعطى المُصادقة على اجتياح عسكري إسرائيلي لرفح، بشرط ان يكون هذه الاجتياح مع خطة، فهذه المُصادقة خرف بامتياز، وإن لم تكن خرف شيخوخة، فهو خرف سياسي، لأن رفح كانت هي الموقع الأخير الذي لجأ إليه أكثر من مليون شريد من أهل غزة مع بدايات استفحال هذه الكارثة الإنسانية فيها، وقد باتت رفح تضيق على من فيها من سكانها الأصليين ومن المُشردين الذين لجؤوا إليها، فإذا ما تم اجتياحها عسكريًا، فإلى أين سيلجأ هذا المليون ويزيد من هؤلاء المُشردين؟!، مما يعني أن كارثة إنسانية أخرى باتت تُهدد غزة، وقد تقع عليها إذا ما وقع هذا الاجتياح .
6. في المُحصلة إن استفحال الكارثة الإنسانية بغزة قد أحالها إلى أرض محروقة تتعسر فيها الحياة، وقد أحالها إلى مقبرة للأطفال، وإلى مقبرة للضمير الإنساني العالمي، ولعل البعض يطمع أن يُرَحِّل أهل غزة عن غزة وإن ظلوا فيها، وكأنهم قد رحلوا عن غزة وما عادوا فيها، وإن ظلوا فيها، بمعنى أن البعض يطمع بتدمير كل مقومات الحياة الأساسية في غزة، وهكذا تبقى غارقة في مأساتها الإنسانية لعشرات الأعوام القادمة، وهكذا يتم تحييدها عن المشهد الفلسطيني، وكأنها غير موجودة، وكأنها أصبحت فارغة من أهلها، وكأنه تم ترحيلهم منها وإن ظلوا فيها حقيقة!!
7. لن يرحم التاريخ أحدًا، وسيكتب التاريخ أن الدعم الأمريكي الرسمي سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا وماليًا كان المُتسبب الأول بهذه الكارثة الإنسانية، وأن دعم بعض الدول الأوروبية الرسمي سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا كان المُتسبب الثاني بهذه الكارثة الإنسانية، وأن عبثية دور هيئة الأمم المتحدة وما تفرع عنها من لجان ومجالس ووكالات كان المُتسبب الثالث بهذه الكارثة الإنسانية، وأن الصمت الرسمي وموقف شبه المُتفرج الرسمي على صعيد الأنظمة المسلمة والعربية كان المُتسبب الرابع بهذه الكارثة الإنسانية، وأن مُخلفات اتفاقية أوسلو كان المُتسبب الخامس بهذه الكارثة الإنسانية، وأن الانقسام الفلسطيني كان المُتسبب السادس بهذه الكارثة الإنسانية، وأن استمرار رضوخ الشعوب المسلمة والعربية للقهر المُسلط عليها منذ قرن من الزمان كان المُتسبب السابع بهذه الكارثة الإنسانية، وهكذا امتلأت غزة ظلمًا وجورًا، كما امتلأت الأرض ظلمًا وجورًا، وبات الجميع على موعد مع بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورا).