فضيحة مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي
توفيق محمد
قال المحلل السياسي والروائي والكاتب المغربي د. ادريس الكنبوري :”لا يوجد مجتمع مدني في العالم العربي، ما هو موجود فعلا هو استعمار جديد من خلال المجتمع المدني، بعد أن كان في الماضي من خلال الدولة، عندما خرج الاستعمار قال للدول العربية: “خذوا السلطة وأعطونا المجتمع المدني فأخذوه””. جاء ذلك في صحيفة لوموند الفرنسية 28\1\2024 التي نقلت هذا التصريح ونقلت ما كشفه د. الكنبوري حول ما وصف بفضيحة مؤسسات المجتمع المدني فقد ذكرت صحيفة لوموند نقلا عن الكنبوري (إن مسؤولي منظمات من المجتمع المدني في مصر ولبنان وفلسطين والأردن قالوا إن البلدان الأوروبية (الداعمة) تضغط على جمعيات المجتمع المدني في الدول العربية عن طريق المال لكي لا تبدي مواقف ضد “الحرب على غزة”).
وأضاف د. الكنبوري حسب لوموند الفرنسية إننا: “نعرف جميعا بأن الدول الأوروبية والمنظمات الأوروبية تدعم ماليا جمعيات المجتمع المدني التي تنشط في مجال المرأة أو الأمازيغية أو الدين أو التربية أو الإعلام وجميعنا يعرف أنّ هذا الدعم المالي فيه شروط ومن أراد الدعم عليه قبول تلك الشروط أو الانصراف…. ولكننا لا نعرف تلك الشروط لأنها غير مكتوبة بل هي شفوية وسرية، إنما يمكن أن نعرف تلك الشروط من خلال الرسالة التي تؤديها جمعية أو منتظمة معينة، مثلا عندما تكون لديك منظمة نسائية تطالب بالمساواة المطلقة في الإرث في بلد مسلم وتقول بأنها تفعل ذلك من أجل تحقيق المساواة فاعلم أنها تفعل ذلك من أجل تحقيق الشروط “.
هذا الكشف يعيدني لاستقراء تاريخ العداء الأوروبي للإسلام منذ الحروب الصليبية الى يومنا هذا. الناظر في تاريخ الأمة يدرك أن الغرب بمنطلقاته الدينية والاقتصادية والسياسية حارب الإسلام قديما، بل منذ كان، ولم يدخر أسلوبا أو طريقا أو وسيلة لحرب الإسلام والسيطرة على بلاد المسلمين إلا واتبعها، وكان ذروة ذلك في الحروب الصليبية التي بدأت في القرن الخامس الهجري حتى القرن السابع الهجري -الحادي عشر الميلادي حتى الثالث عشر الميلادي- وهي الفترة المعروفة في التاريخ باسم الحروب الصليبية ولما كانت النتيجة النهائية لهذا الحروب هي هزيمة الجيوش والممالك الصليبية في الشرق الإسلامي وطرد آخر جندي صليبي من بلاد المسلمين في العام 1291 م بعد قرابة قرنين من الهزائم والانتصارات المتبادلة فإن هذا الغرب لم يتوقف عن حربه بشتى الأساليب العسكرية وبالأخص الفكرية والأخلاقية والعقدية ركز من خلالها على المنظومة الفكرية والمجتمعية في حياة الأمة خاصة بعد انتهاء الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي وهزيمتها المطلقة، إذ ظلت عقيدة حرب الإسلام والمسلمين والسيطرة على مقدرات بلدانهم وخيراتها تراود قياداتهم السياسية والدينية والتجارية ولكل منطلقاته في ذلك، ففي القرن الثالث عشر الميلادي وخاصة بعد انتهاء الحملات الصليبية التي تأثر أهلها بالعلوم والحضارة الإسلامية والعربية إذ ذاك وهي التي كانت حضارة العصر ومركز الإشعاع والهداية العلمية العالمية إذ كان لا بد لكل متعلم باحث من دراسة العربية لغة العلوم إذ ذاك حتى يتمكن من العلوم بشتى مسمياتها وتخصصاتها”.
فقد كان “من أبرز آثار الحروب الصليبية في أوروبا أن أخذت بعض مدن أوروبا تنشئ مدارس لتعليم اللغة العربية، وعلى قدر ما كان ذلك سببا في شيوع اللغة العربية، فإنه كان يحمل في طياته أهدافا معادية للإسلام والمسلمين، وذلك أن الحروب الصليبية حينما وضعت أوزارها وطرد المسلمون آخر جندي صليبي من بلاد المسلمين، أخذت أوروبا تفكر من جديد في معاودة الكرة وغزو بلاد المسلمين، وكانت في هذه المرة تتحرك نحو هذا الغزو بدوافع أكثرها اقتصادي وسياسي بينما كان العامل الديني في الحروب الأولى هو الغالب أو الأكثر بروزا.
ولقد تحالفت في سبيل تحقيق هذه الرغبة قوى ثلاث: الكنيسة تحركها أطماعها الدينية وهي القضاء على الإسلام وإدخال أهله في النصرانية، والملوك يحركهم الطمع في الحصول على امتيازات لتجارتهم في الموانئ الإسلامية، ورجال المال والاقتصاد يحركهم طمعهم في الإتجار وتبادل المنافع.
ولقد أدرك هؤلاء جميعا أن تعلم اللغة العربية أمر ضروري للوصول إلى هذه الأهداف أو هذه الأطماع، من أجل ذلك أُنشئت في بعض مدن أوروبا مدارس لتعليم اللغة العربية في إيطالية وصقلية وفرنسا وغيرها، ولقد أفاد تعليم اللغة في بعض مدن أوروبا -عن غير قصد- اللغات الأوروبية الشعبية، فقد كانت لغة التعليم والثقافة في أوروبا هي اللاتينية والإغريقية وكان لهما قداسة وهما وقف على رجال الكنيسة أما سائر الناس فكانوا نتيجة لذلك في شبه انعزال عن الثقافة، فلما أخذت بعض المدن في تعليم اللغة العربية للسبب الذي ذكرنا آنفا، أُهملت اللاتينية والإغريقية إلى حد كبير، وكان ذلك خطوة لا بد منها لإحياء اللغات الشعبية وتداول فروع المعرفة عن طريق غير طريق القسوس.
وأخال أن بدايات الغزو الفكري للأمة الإسلامية والعالم العربي قد بدأ في هذه السنوات عبر الدراسة الفكرية العميقة لعقيدة وعادات وتراث ونهج كل مكون من مكونات دولة الخلافة الإسلامية التي كانت في ذروة انطلاقتها في تلك الأيام وعنفوان فتوحاتها لاكتشاف مواطن الضعف ومكامن الهجوم القادم حتى إذا سنحت الفرصة كان الانقضاض والتطعيم بالحرب الفكرية (الغزو الفكري) سهلا مستغلين ضعف دولة الخلافة العثمانية في أواخر عمرها أي بعد قرون ستة من ذاك التاريخ في القرن التاسع عشر ميلادي الثالث عشر هجري، فكان الاستعمار العسكري للشرق الإسلامي خلال الحرب العالمية الأولى وتقسيمه وفق اتفاقية سايكس- بيكو الشهيرة في العام 1916 التي أفضت إلى احتلاله عسكريا تمهيدا للاحتلال الفكري غير المكلف بشريا ولا ماديا إذ انسحبت الجيوش العسكرية الأوروبية من الشرق الإسلامي بعد عقود من احتلاله عسكريا ليس قبل أن تقسم هذا الشرق الإسلامي إلى دول كثيرة وتصطنع بين كثير منها خلافات حدودية وصراعات وليس قبل أن تضع أدواتها على سدة الحكم في كل دولة من هذه الدول وفي مفاصلها الإدارية والقيادية، هؤلاء الأدوات الذين ربتهم لعشرات السنوات في الجامعات الأوروبية وأحيت في وجدانهم العرقيات والاثنيات والاعتداد بالأصول القومية لهم إلى جانب غزو مجتمعاتهم بعشرات العقائد الفاسدة والمدمرة لجوهر الدين في حياة الأمة فكانت العلمانية والقومية والوطنية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والعولمة وتحرير المرأة وكثير غيرها من سمات العصر هي أدوات المستعمر في بقائه محتلا للشرق الإسلام وأدواته في ذلك هم أبناء هذا الشرق الذين تربوا في جامعات الأوروبيين وتشربوا بأفكارهم ومبادئهم وأخلاقهم ولذلك لا غرو أن تجد هؤلاء مصطفين مع ناهب ثروات بلدانهم ضد كل إسلامي يسعى للتحرر من قبضة المحتل والنهوض ببلده نحو الاستقلال السياسي والاقتصادي وبت تجد بلاد العرب والإسلام ذات الخيرات الطبيعية المهولة يستجدي حكامها أموالهم من الغرب تلك التي يدخرها الغرب من استخراج خيرات بلاد المسلمين وهو -الحاكم العربي- يتربع فوقها ويستخرجها غيره بالضبط كما قال شاعرنا ذات يوم:
كالعيس في الصحراء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
وسيرا على ما قال د. الكنبوري في افتتاحية هذه المقالة بشأن مؤسسات المجتمع المدني فإن ثلة من المنتفعين في مقاليد السلطة الحاكمة وفي مقاليد المؤسسات القابضة هي المستفيدة من المال الغربي المشروط بأجندة الدافعين.
لقد حدثني أحد الأصدقاء ممن لا أشك بوطنيته وهو من إحدى الجمعيات أن دولة (ص) قد أوقفت دعم جمعيته بسبب موقفها من الحرب على غزة وهذا الحديث إذا ما أضيف إلى ما كشف عنه د. الكنبوري فأنه يؤكد حقيقة المال المتدفق نحو مؤسسات المجتمع المدني وأنه ليس إلا بهدف إحكام القبضة على المجتمع أخلاقا وفكرا وسلوكيات بعد إذ تربع على كراسي الحكم وكلاء الاستعمار وأدواته.