أرقام ومعطيات مهمة في سياق هذه المرحلة
ساهر غزاوي
قبل أن يُسدل الستار على عام 2023، بدأت وسائل الإعلام المحلية وإلى جانبها عدد من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، تتحدث عن ما سجله العام الأخير من حصيلة ضحايا غير مسبوقة بجرائم القتل في المجتمع الفلسطيني في الداخل، هذه الحصيلة التي بلغت 228 قتيلًا هي مقلقة ومرعبة، إذ أننا نتحدث عن أكثر من 200 ضحية ولكل ضحية يوجد أسرة تتكون من مجموعة أفراد يعيشون تحت سقف واحد، ولهذه الأسرة يوجد عائلة كبيرة تتكون من عدة أسر، وكل عائلة كبيرة تضم تحت جناحها عدة أسر، تربطها مع عائلات أخرى صلة قرابة ونسب وروابط اجتماعية تجمعهم على مستوى الحي والبلدة والمجتمع ككل.
وإذا أضفنا حصيلة ضحايا جرائم القتل عام 2023 مع حصيلة آخر خمسة أعوام (2018-2022)، في ظل استمرار وتصاعد موجة الجريمة في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، سنجد أن العدد يتجاوز 700 ضحية، ما يعني أنه منذ عام 2000 وحتى اليوم قتل قرابة 1900 عربي، ولا يزال حمّام الدم يجري في مجتمعنا، إذ ارتفعت حصيلة القتلى العرب إلى 8 منذ مطلع العام الجاري حتى كتابة هذه السطور.
يُضاف كذلك أن العام 2023 سُجل فيه حالات 8 ضحايا عرب قتلوا برصاص الشرطة الإسرائيلية، مع أهمية الإشارة إلى أنّ هذه الحالات (8) تضاف إلى 79 حالة قتل لشبان عرب من المجتمع الفلسطيني في الداخل في الفترة الواقعة من عام 2000 وحتى عام 2022 نتيجة سياسة “الإعدام الميداني” -القتل خارج إطار القانون-، مع أهمية الإشارة إلى أن هناك الكثير من الضحايا العرب قتلوا على يد المستوطنين اليهود في حالات مختلفة.
وهكذا فإن مجتمعنا الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية، الذي ترتكب فيه جرائم القتل على نحو شبه يومي، قد وجد نفسه متروكًا لمصيره. وقد بات مجتمعنا يعيش تحت تهديد عصابات الجريمة المنظمة المرتبطة بمنظومة الدولة وتحت تهديد سياسة “الإعدام الميداني” التي تحظى بغطاء سياسي رسمي وقانوني إسرائيلي، وبات مثقلًا بالدماء والقلق والتوتر والحزن والأسى والأيتام والأرامل، ويصبح ويمسي أبناء هذا المجتمع وهم فاقدين لأمنهم وأمانهم الشخصي في حيزهم الخاص والعام على حد سواء، فإما أن يقتل أبناء هذا المجتمع بأيد عربية متعاونة مع جهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك)، وإما أن يقتل برصاص الشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية بدم بارد، وفي كلتا الحالتين فإن “الدم رخيص” وحتى لا ثمن له، وإن عرف السبب بطل العجب!! فلا عجب أن المؤسسة الإسرائيلية لا تزال منذ العام 2000 وبعد اندلاع هبّة القدس والأقصى تحديدًا، تراهن على التضييق وإضعاف المجتمع الفلسطيني في الداخل وإبقائه عند مستوى معين من الضغط والحاجة إلى درجة تخدم سيطرتها، لا سيّما وأن موضوع الجريمة والعنف بات يتصدر اهتمامات المجتمع الفلسطيني في الداخل ومقدم على أيّة قضايا أخرى.
ليس فقط أنّ مجتمعنا الفلسطيني في الداخل يلملم أوراقه ويضمّد جراحه، من تبعات العنف والجريمة ومن تبعات سياسة “الإعدام الميداني”، بل لا تزال تداعيات أحداث “هبّة الكرامة” التي اندلعت في أيار/ مايو 2021 تلقي بظلالها على مجتمعنا، بدءًا بالسياسات العنصرية والملاحقات السياسية والتمييز في الملاحقات البوليسية والأحكام القضائية العالية بحق معتقلي “هبّة الكرامة”. فمنذ شهر أيلول 2022 وحتى اليوم، أصدرت المحاكم الإسرائيلية مجموعة من الأحكام بحق نحو 60 شابًا عربيًا على خلفية هذه الأحداث، تميزت بقسوتها ووصلت في أقصاها إلى السجن 17 عامًا وأخرى إلى 15 عامًا وأقلها تصل إلى ثلاثة شهور، إضافة إلى الغرامات المالية التي فرضت عليهم. ما معناه أن نحو 60 أسرة عربية من ذوي معتقلي هبّة الكرامة (على نطاق ضيق) عانت ولا تزال من تداعيات نفسية واجتماعية مختلفة، ومن تحديات اقتصادية وضغوط مالية كبيرة، جرّاء الغرامات المالية التي تفرضها المحاكم وسفريات السجن ومصاريفه، إضافة إلى تغطية تكاليف المحامين الباهظة التي يستمرون في تقسيطها لعدة سنوات. هذا عدا أن هناك العشرات من أبناء مجتمعنا الفلسطيني في الداخل لا تزال ملفاتهم قيد التداول في أروقة المحاكم قبل إصدار الحكم النهائي عليهم.
خاصّة في هذه المرحلة المفصلية، كان لا بدّ من وقفة مع هذه الأرقام والمعطيات التي تُجسد حالة من واقع صعب يعيشه المجتمع الفلسطيني في الداخل، كون هذا المجتمع في دائرة الاستهداف المباشر من قِبل المؤسسة الإسرائيلية التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى تحطيم قيّمه وسلخه عن هويته الوطنية، وعزله عن الشعب الفلسطيني، لأن قاعدة الداخل الفلسطيني هي الانحياز إلى الهمّ الجماعي وإلى قضاياه المصيرية وليس كما يحلو للبعض تسويق هذا المجتمع، وفقًا لمنظورهم وأجنداتهم الخاصة، أن مجتمعنا منشغل بتحصيل الميزانيات وتحصيل الحقوق الفردية واللهث وراء مشاريع الانخراط فيها أكثر بكثير من منافعها ومصالحها.
وبالرغم من أن أبناء المجتمع الفلسطيني في الداخل يشهدون منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، حالة حكم عسكري غير معلن عنها رسميًا، تتمثل بأشكال عدة من تضييقات واسعة وممارسات وسياسات عقابية وسلوكيات سلطوية إسرائيلية تجاههم، وعلى كافة الصُعد، وبالرغم من أن هناك شعور بعجز قاتل نتيجة ما يعيشه الفلسطينيون في الداخل من واقع صعب للغاية، إلا أن المحاولات المتكررة لكسر الصمت والقيود المفروضة على الداخل الفلسطيني منذ بداية الحرب لم تتوقف حتى اليوم.