غزّة، سجن بلا سقف”.. شهادة إسبانيّة
في السنوات التي عملَ بها كمراسلٍ للتلفزيون الرسمي الإسباني في “الشرق الأوسط”، تنقّل الصحافي الإسباني أغوستين ريميسال Agustín Remesal في فلسطين، وعبرَ مئات المرّات معبر بيت حانون، حيث شاهد بأمِّ عينيه كيف يعيش أهل غزّة، وكيف يقاوم الفلسطينيون بالحجارة، وفي معركة غير متكافئة، جيشاً استعمارياً مدججاً بأحدث أنواع الأسلحة والمدرعات.
شهدَ أيضاً بأم عينيه الألم والموت والحسرة والفقدان. عرف معنى الاحتلال. معنى الاستيطان. اختبر عن قرب أوجاع الناس وعذاباتهم، لا سيّما عندما تسقط الصواريخ الدقيقة التي تقتل مئات الفلسطينيين، من أطفال ونساء وشيوخ، في حين يستمتع العالم بنقل الأخبار السريعة على التلفاز دون أن يتوقّف، ثانية واحدة، عند حقيقة ما يحدث، عند حقيقة هذا الألم.
هكذا كانت نتيجة هذه السنوات التي قضاها الصحافي الإسباني في فلسطين تأليف كتابٍ حمل عنوان “غزّة، سجنٌ بلا سقف” والذي سبق وصدر عن دار نشر “كاتاراتا” الإسبانية في عام 2008، حيث روى فيه، بضمير المتكّلم، أحداثاً ووقائع تاريخية وسياسية، وثّقها وجمعها كما عاشها. كما أنه كتب عن أولئك الأطفال الذي رآهم يحلمون بالحرية، وأولئك الذين يموتون في أحضان آبائهم، تماماً كما عاش عن قرب استشهاد الطفل محمد الدرّة. كتبَ عن فلسطينيين، نساءً ورجالاً، يحملون راية المقاومة في وجه من احتل أرضهم.
في وقتها لم ينل الكتاب انتباهاً، وراج في حلقات ضيقة من المختصين والمهتمين بالقضايا العربية. ولكن اليوم، تزامناً مع عدوان الإبادة على غزّة، انتشر الكتاب بشكلٍ واسع، ليس بين المعنيّين بالقضايا العربية، بل الجمهور الإسباني الذي خرج إلى الشوارع في مختلف المدن الإسبانية، دعماً للفلسطينيّين في نضالهم ضد حرب الإبادة الجماعية وتنديداً بالعدوان الأخير المدعوم من الأنظمة الغربية. الأمر الذي دفع دار النشر إلى إصدار طبعة ثانية من الكتاب نظراً لراهنيّة الأحداث وتفاعل الجمهور الإسباني مع القضية الفلسطينية.
يتألّف الكتاب من سبعة فصول حملت العناوين التالية: الانتفاضة؛ الحصار؛ حركة حماس؛ عمليات الإخلاء؛ الأطفال؛ المخطوفون؛ التمرّد. وفي سطور هذه الفصول يروي ريميسال خلفيات أحداث سياسية ووقائعها التي، وكما يقول هو نفسه في مقدمة الطبعة الجديدة “لا تتناسب مع الوقائع التلفزيونية. إذ لا مجال للتعبير عن القسوة والعنف الذي تعانيه تلك القطعة من الأرض التي تُدعى غزّة، والتي يسكنها ما يقارب مليوني أسيرٍ تحت الشمس”.
ما يثير الانتباه في الكتاب هو السياق التاريخي الذي يروي فيه الصحافي أحداث الحاضر، إذ لا يتعاطى مع الواقع الآني والعابر، بل يعود إلى التاريخ كي يفهم امتداد الأحداث وتطوّرها وصولاً إلى اللحظة التي يعيشها. حيث يبدأ، تحديداً من نهاية القرن التاسع عشر، ولو بشكل مقتضب ومختصر، ليتحدث عن ظهور الحركة الصهيونية ومشاريع الاستيطان.
ثم بعد ذلك يتعمّق الكاتب في سرد الأحداث الواقعية التي يراها أمامه، بحيث يبدو الكتاب وكأنه يوميات. وصحيح أن الكاتب يتناول القضية الفلسطينية بشكل كامل تقريباً، إلّا أنه يولي اهتماماً كبيراً لقطاع غزّة، الذي لا يترك فرصة إلا ويصفه بها بأنه سجن بلا سقف، ومن هنا كان عنوان الكتاب.
تؤكد هذه الطبعة الجديدة من الكتاب أنَّ حقيقة المشروع الاستعماري الصهيوني لم تتغير، وما حرب الإبادة الأخيرة هذه إلى حلقة من حلقات مسلسل طويل من تاريخ مليء بالدم والقتل.