معركة الوعي (189) عندما يعلو صوت الفاشية فوق صوت المدافع
حامد اغبارية
في الحروب يمكن أن يحدث كل شيء. يمكن أن تطول أو تقصر. ويمكن أن يسقط ضحايا من المدنيين دون قصد وسبق إصرار. ويمكن أن تسقط حمم الطائرات فوق البنايات المدنية وَتَدُكُّها فوق ساكنيها. ويمكن أن تصيب قذيفة طائشة بناية مدرسة أو مستشفى. ويمكن أن يخطئ صاروخ ويصيب مئذنة مسجد.. ويمكن أن يعاني المدنيون وأن ينزحوا إلى أماكن آمنة أو يظنون أنها آمنة، ويمكن أن تنقص الأدوية في المستشفيات أو تنتهي كليا، ويمكن أن يجد الناس الجوع والعطش. هذا كله وغيره من الوارد وقوعه في الحروب والمعارك.
تحدث هذه الأخطاء غير المقصودة عندما تكون الأطراف المتحاربة تملك أدنى قدر من أخلاقيات الحروب والصراعات الدامية. بل إن التاريخ الإنساني سجل الكثير من المواقف التي تُظهر الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء وتقديم الاعتذارات يرافقها التعويض عن الأضرار التي ألحقتها الأطراف بالمدنيين وبالمنشآت المدنية.
وقد ترسّخت هذه القيم في نفوس المسلمين من السلف إلى الخلف إلى يومنا هذا.
في خلافة عمر رضي الله عنه بلغه أن أحد المقاتلين من المسلمين قال لمحارب من الفرس أثناء المعركة: لا تخف. فلما أمِنَ الرجل على نفسه قتله المسلم. فكتب عمر رضي الله عنه إلى قائد جيش المسلمين يقول: (إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج (الكافر)، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع يقول له: لا تخف. فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا قطعت عنقه). وهذا تصديق لقوله صلى الله عليه وسالم: {مَنْ أَمَّن رَجُلاً عَلَى دَمّهِ فَقَتَلَهُ، فَأنَا بَرِيءٌ مِنَ القَاتِل، وَإِنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِرًا}. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل العُبّاد في الصوامع، ناهيك عن دكّ المعابد فوق رؤوسهم…
يحدث هذا وغيره كثير عندما يكون المقاتل مدركا لمعنى كونه فارسا، لأن الفروسية لا تعني فقط القدرة على حمل السلاح والبراعة في فنون القتال والعبقرية العسكرية وتحقيق الانتصارات، بل يسبق هذا كله شرف الفروسيةّ والمروءة والشهامة والعفو عند المقدرة والصفح وتقدير الخصم واحترامه وعدم التقليل من شأنه أو تحقيره أو وصفه بما ليس فيه أو الاعتداء على حرماته وإيذاء نسائه وأطفاله… بل كان الفارس إذا بارز عدوّا له في الميدان ثم أسقط السيف من يده، أمهله حتى يأخذ سيفه ويقاتل، لأنه لا يرضى أن يخرُم فروسيته بمثلبة، وهو القادر على قتله.
كان هذا شأن الناس فيما مضى من أزمنة، حتى في الجاهلية، مع استثناءات أدْمَت آدمية البشرية ووضعت الإنسانية تحت أقدامها، كما فعل المغول في اجتياحهم لبلاد المسلمين والصليبيون في حملاتهم ضد الشرق الإسلامي.
ثم حدث أن وصلت البشرية إلى العصر الحديث الذي بدأ من القرن التاسع عشر وكشّر عن أنيابه في القرن العشرين، فظهرت في أوروبا والقارة الأمريكية وشرق آسيا إمبراطورياتُ شرٍّ قلبت موازين الحروب، وجعلت من المدنيين زادًا لحممها ونيران وحشيتها التي لا حدود لها.
وأغرب ما في هذه المسألة أن هذه الامبراطوريات نفسها هي التي بادرت إلى وضع مواثيق ومعاهدات دولية تتحدث فيها عن أخلاقيات الحروب وضرورة الحفاظ على حياة المدنيين وتجنيبهم ويلات الحرب وآثارها. بل وخصصت لهذه المسألة فئات من الأطفال مثلا، والنساء مثلا، والصحافيين مثلا، والأطباء مثلا، وطواقم الإسعاف مثلا، وطواقم الإنقاذ المدنية مثلا، وهلمجرا..
ثم تكتشف أن هذه المواثيق والمعاهدات التي منحوها صبغة الدولية، ليست أكثر من حبر على ورق، إذ يتضح أن المدنيين بكل أنواعهم كانوا هم أكثر الذين دفعوا الثمن من أرواحهم وأموالهم وبيوتهم، بدءًا من الحرب العالمية الأولى، بل وقبل ذلك في الحرب الأهلية الأمريكية، والحرب الأهلية الإسبانية وغيرها مما لا يحصى من حروب بينيّة أو أهلية أوروبيّة.
لذلك عندما تأتي لمناقشة هذه المسألة، فإنّ مقولة “عن غير قصد” و”دون عمد وسبق إصرار” تبقى قضية نظرية تقع في دائرة الشك، وتخضع للفحص الدقيق والإثبات العلمي والعملي في أدق المختبرات التلسكوبيّة وأكثرها تطورًا.
أنت اليوم ترى حروبا أصبح فيها المدنيون من البشر والمباني السكنية والمشافي والمؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات، والمساجد والبنى التحتية هي الهدف الرئيس والمستهدف الأكبر في هذه الحروب، حتى أنه أصبح من حقّك أن تشك إلى درجة اليقين أن القوة العسكرية المقابلة، أي الطرف الآخر المحارب، هو الاستثناء…
ترى بعينيك الحمم والقذائف تسوّي الأحياء والمدن بالأرض، وترى الصواريخ تستهدف النازحين في أماكن الإيواء، وترى تجويع المدنيين وتعطيشهم وحرمانهم من تلقي العلاج عن سبق إصرار، حتى أن أعدادا كبيرة من الجرحى المستهدفين من الطائرات وقذائف الدبابات يفارقون الحياة نزفا لأنهم حرموا من حقهم في تلقي العلاج. وحتى أن جثث القتلى تتحلل في الشوار والأزقة وتحت الأنقاض لأنها لا تجد من يكرمها بالدفن، لا تقصيرا وعكوفا، بل لأن من قتلهم يمنع دفنهم.
لذلك تجد اليوم أن صوت الفاشية هو الصوت المهيمن، الذي يعلو على صوت المدافع والصواريخ والرصاص. وهي ليست مجرد فاشية عادية، بل فاشيّة ذات هدف تسعى إلى تحقيقه.
تسمع من يقول إنه كان يجب حصد مائة ألف فلسطيني مع الضربة الأولى، كما قال تسفي يحزقئيلي، الذي يعتبرونه محللا سياسيا في القناة (13) الإسرائيلية، ليتضح أنه مجرمٌ مهنته أن يحلل سفك دماء الأبرياء، لأنهم في نظره ليسوا أبرياء.
وتسمع من يقول: يجب حرق غزة، وتصفية من يبقي فيها، كما قال عضو الكنيست الليكودي، نائب رئيس الكنيست، نيسيم فاطوري.
وتسمع من يقول: يجب فتح أبواب الهجرة للغزيين وبناء مستوطنات وحدائق ألعاب ومدن ملاهي هناك، كما صرح بن غفير وسموطرتش.
وتسمع من تقول: يجب تدمير غزة وتسويتها بالأرض، كما قالت السفيرة الإسرائيلية في لندن تسيبي حطوفيلي.
أما الذين لا يصرّحون بمثل هذا علنا، فإنهم يمارسونه على الأرض، كما يفعل نتنياهو ووزير حربه جلانت ودميته الجميلة جانتس.
ثم تسمع من يحدّد الهدف الحقيقي الذي يقف وراء كل هذا: حدودنا ستمتد من لبنان إلى السعودية، وسنأخذ مكة والمدينة وجبل سيناء، كما قال الكاتب الصهيوني آفي ليبكين.
وهذا التصريح ليس مجرد تعبير عن موقف شخصي لكاتب فاشي، بل هو انعكاس لحقيقة المشروع الصهيوني، الذي يؤمن به كل هؤلاء ويسعوْن مجتمعين إلى تحقيقه.
لذلك فإن هذه الحرب الحالية لن تنتهي عند هذا الحد، وأظن متيقنا أن الأطراف الأخرى تدرك حقيقة المسألة.
لن تتوقف الحرب عند غزة، فيما يبدو لي، بل ستزحف نارُها في الجهات الأربع لتلتهم وتحرق وتأكل ما تجده في طريقها. هي حرب كسر عظم حقيقية، لا تشبه ما سبقها من حروب….. وللحديث بقية.