أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (188) سيكيولجيّة الاغتيال السياسي

حامد اغبارية

عن أي شيء يعبّر لجوء دولة يقال إنها تملك كل عناصر الردع والقوة، وتحظى بكل أنواع الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، إلى سياسة الاغتيالات؟

إنه يعبّر عن الفشل. هكذا باختصار. فشل في الميدان وفشل في تسويق الرواية، وفشل في تحقيق الأهداف المعلنة وغير المعلنة.

تُجمع الأبحاث والدراسات المعنية بقضية الاغتيالات السياسية على أن هذه السياسة دافعها الوحيد هو الانتقام والرغبة في تحقيق ما فشلت المواجهة الميدانية في تحقيقه.

غير أن هذه السياسة، التي تمارسها دول كثيرة حول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة والمؤسسة الإسرائيلية، وبحسب كل الدراسات، لم تحقق شيئا، بل جاءت في أغلب الحالات بنتائج عكسية تماما.

وهي في المحصلة تشير إلى هشاشة الدولة المنفّذة وإلى فقدانها للثقة بالنفس في أعلى درجاتها. فالواثق من نفسه ومن قدراته ومن تفوّقه لا يلجأ إلى الاغتيال العبثي الذي لم يَثبُت لا تاريخيا ولا حاضرا، كما لم يثبت علميًّا، أنه يعطي ثمارا ويحقق أهدافا، لا تكتيكية ولا استراتيجية. فالاغتيال يعني القتل غدرا لتصفية الخصوم.

وسياسة الاغتيالات ليست خاصة بدولة معينة ولا بمرحلة تاريخية معينة، بل هي قديمة قِدم التاريخ، لجأ إليها العاجزون عن مراغمة الأنداد وجها لوجه وفي وضح النهار. وفي نهاية المطاف فإن هذه السياسة هي محاولة يائسة لتغيير القدر أو مواجهة القدر.

في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاول بنو النضير اغتيال النبي عليه والصلاة والسلام يوم ذهب إليهم ليستعين بهم في دفع دية رجلين قتلهما أحد الأنصار خطأ، وكان بين النبي عليه السلام وبين يهود المدينة معاهدة على ذلك، غير أنهم حاولوا اغتياله بإلقاء صخرة عليه من فوق حصنهم، في محاولة للقضاء على رسالة الإسلام، لكن الله تعالى نجاه. وحاولوا اغتياله بشاة مسمومة، وفشلوا. تكررت محاولات الاغتيال وفشلت في وقف قدر الله. وكان الدافع النفسي الخفي أن هؤلاء رفضوا أن يكون نبيُّ آخر الزمان من غيرهم.

واغتال الفرس الخليفة الثاني عمر بن الخطاب انتقاما لفتح المدائن وسعيا إلى وقف قدر انتشار الإسلام، وفشلوا. وكان الدافع النفسي الخفي: كيف لهذه الحفنة من الأعراب الحفاة العراة رعاء الشاء أن يهدموا أمجاد الأكاسرة ويطفئوا نار امبراطوريتهم؟

واغتال أهل الفتنة ومن يقفون خلفهم الخليفة الثالث عثمان بن عفان لوأد دعوة الله تعالى وفشلوا. وكان الدافع النفسي الخفي وراء الاغتيال: وقف توسع الدولة الإسلامية التي بدأت تتمدد.

واغتال الخوارج عليًّا بن أبي طالب الخليفة الرابع، لتحقيق أجنداتهم الفتنوية ففشلوا ومضت دولة الإسلام شامخة تبني الحضارة وتفتح البلدان. وكان الدافع النفسي الخفي وراء ذلك أن الخوارج أرادوا دولة على مقاسهم وبناء على فهمهم. وقد ذكرت مصادر عدة أن خطتهم كانت تتضمن اغتيال أقوى ثلاث شخصيات في الدولة، وهم علي ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، لكن خطة اغتيال معاوية وعمرو فشلت، وانتهى الأمر إلى بني أمية الذين واصلت الدولة في عهدهم الفتوحات والانطلاق الحضاري.

وفي عصرنا الحاضر اغتيل الإمام حسن البنا في محاولة لإفشال مشروع إحياء الإسلام وحماية بيضته بعد إسقاط الخلافة، نجح الاغتيال، ولكن فشلت الأهداف فشلا ذريعا.

واغتالوا مالكوم إكس في محاولة لإسكات صوته الداعي إلى الإسلام، فأصبح بعد قتله أيقونة، ولم يتوقف انتشار الإسلام في القارة الأمريكية، بل انتشر بين الناس كالنار في الهشيم.

وفي أفغانستان والعراق نفذت الولايات المتحدة الأمريكية سلسلة طويلة من الاغتيالات لتحقيق أهدافها الكولونيالية، لكنها فشلت، كما فشلت سائر الاغتيالات السياسية التي نفذتها حول العالم؛ خاصة في الشرق الأوسط وفي آسيا وأفريقيا عبر السنين.

في علاقتها مع الشعب الفلسطيني الساعي إلى التحرر والانعتاق من الاحتلال انتهجت المؤسسة الإسرائيلية سياسة الاغتيالات بهدف وأد طموح الشعب الفلسطيني إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق الحرية. لكنّ هذه الاغتيالات أسفرت عن فشل ذريع. وبدلا من ذلك زادت هذه الاغتيالات الشعب الفلسطيني إصرارا وإقبالا وسعيا إلى تحقيق طموحاته. وهذا ما أكدته مئات الدراسات الأكاديمية، من بينها عشرات الدراسات الإسرائيلية التي من المؤكد أن صانعي القرار الإسرائيليين اطّلعوا عليها واستوعبوها جيدا، لكنهم لم يتوقفوا عن هذه السياسة، لأن الرغبة في الانتقام، من خلال توجيه ضربات موجعة، ولو بشكل مؤقت، كانت هي المحرّك الأول لهذه السياسة.

ولو حققت هذه السياسات شيئا يذكر لما كنا نعيش اليوم هذه المواجهة الكبرى التي تشن من خلالها تل أبيب واحدة من أشرس الحروب التي شهدتها المنطقة، إن لم تكن أكثرها شراسة ودموية.

ولقد اغتالت تل أبيب قيادات فلسطينية ذات وزن من جميع الفصائل، من فتح وحماس والشعبية والديمقراطية وغيرها طوال العقود الماضية، فماذا كانت النتيجة؟!
إن الاغتيال السياسي هو في الحقيقة عملية ممنهجة لاغتيال السياسة نفسها. فهما نقيضان. وفي التالي لا يمكن للاغتيال السياسي أن يحقق نتائج سياسية، بل تفتح الأبواب مشرعة أمام مزيد من شلالات الدماء التي لا تتوقف.

ويؤكد خبراء علم النفس حول سيكيولوجية الجريمة السياسية أو الاغتيالات السياسية أن هذا النهج ينمّ عن نفس غارقة في الشر والوحشية والرغبة في الانتقام الوهمي. وإن الجهة التي تلجأ إلى هذا الأسلوب تريد أن تغرس في وعي الرأي العام عندها أن التاريخ لا يمكن أن يتقدم أو يُصنع إلا من خلال هذه النوازع الشريرة التي تعمل في الخفاء. ويؤكد علماء النفس أن هذه الميول تتناقض تماما مع الطبيعة البشرية التي تميل بفطرتها إلى الابتعاد عن الممارسات الشريرة والعدوانية غير المنضبطة، وتسعى إلى البناء الإيجابي بالاستعانة بالرغبة الجماعية للمجتمعات البشرية.

وخلاصة القول إن الاغتيال السياسي يدلل على انحطاط أخلاقي وإفلاس يكشف عن عجز منفذ الاغتيال عن مقارعة الحجة بالحجة، رغم علمها المطلق والأكيد أن اغتيال شخصية ذات مكانة قيادية مؤثرة لا يمكن أن توقف طموحات الجماعة (الشعب) التي تنتمي إليها تلك الشخصية، ولا يمكنها أن توقف عجلة التغيير، لأن التغيير ليس متعلقا بالأفراد أيا كان مركزهم، بل هو قوة كامنة في وعي الشعب. لذلك لا عجب أن الشعوب الحيّة لا تتوقف عن “إنتاج” قيادات بديلة يتضح في أغلب الأحيان أنها – في ظروف المرحلة- أفضل وأقوى من سابقاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى