تأملات في سياسات نتنياهو البراغماتي العالق في الحكم والغارق في الدماء
الكتاب: “بنيامين نتنياهو: إعادة إنتاج المشروع الصهيوني ضمن منظومة صراع الحضارات”
الكاتب: مهند مصطفی
الناشر: مركز رؤية للتنمية السياسية، إسطنبول – 2019
عدد الصفحات: 166
ـ 1 ـ
تمثل دراسة الشخصيات الفاعلة في الساحة السياسية الإسرائيلية ضرورة فلسطينية تساعد، مع عناصر أخرى كثيرة، على توقّع سياسيات العدو وردود أفعاله وعلى استشراف المستقبل عامّة. وهذا الأمر ينسحب تماما على بنيامين نتنياهو، أكثر الحكام الإسرائيليين مرابطة برئاسة الوزراء وتأثيرا في المشهد السياسي الدّاخلي. وفي هذا الإطار يتساءل الباحث مهند مصطفی إن كان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيديولوجيا ينفّذ على الأرض تصوراته “للوطن القومي لليهود” أو هو البراغماتي العالق في الحكم المحتمي بالسلطة حتى لا يواجه السّجن حالما يفقد منصبه الذي يوفّر له الحصانة لقضايا الفساد التي تلاحقه فيغيّر مواقفه وفق الظروف الدّاخلية والخارجية؟
للاقتراب أكثر من شخصية نتنياهو يعود الباحث إلى تاريخه الشخصي والعائلي. فهو ينحدر من جدّ حاخام مبشّر بالصهيونية في بلده الأصلي ليتوانيا ثم في سائر أنحاء أوروبا الشرقية قبل أن يهاجر إلى فلسطين عام 1920، وأب منخرط في خصومات إيديولوجية متعاقبة داخل التيار الصهيوني، فيهاجر من فلسطين إلى الولايات المتحدة لشعوره بتعسّف خصومه عليه ولن عود إليها إلا سنة 1948. وبعد عودته بسنة سينجب بنيامين نتنياهو الذي كانت العائلة ترى فيه فاعلا في الحقل الاقتصادي وتعدّه لذلك. ولكن مقتل شقيقه العسكري في عملية عنتيبي جعله ينخرط في الحقل السياسي. فتم تعيينه ملحقا سياسيا للسفارة الإسرائيلية في واشنطن عام 1982 ثم مندوبا لإسرائيل في الأمم المتحدة 1984- 1988. وسيمثل الحدثان نقطة انطلاقته نحو قمة هرم السلطة في إسرائيل. فقد أبان عن قدرات خطابية وعن تمكّن من اللغة الإنجليزية وأفاد من علاقات والده المتشعبة في الولايات المتحدة لتعزيز مكانته الدبلوماسية مما جمع حوله مناصرين يرون فيها جوادا رابحا.
ـ 2 ـ
يستمد نتنياهو هويته السياسية من عنصرين:
ـ فقد ركّز على تاريخ اليهود في الشتات والإرهاب والعودة بها إلى عصور بعيدة ليقنع محيطه بأن اليهود مستهدفين في وجودهم مشردين من وطنهم الأصلي. وأمكن له أن يقنع الأمم المتحدة بفتح أرشيفها حول الكارثة. وهذا ما عُدّ إنجازا معتبرا له. وفي الحقيقة لم يكن الأمر أكثر من دعاية لشخصه. فهذا الأرشيف لم يحمل ما هو جديد حول معرفتنا بما تعرض له اليهود في النصف الأول من القرن العشرين.
ـ سوّق نفسه باعتباره خبيرا في الإرهاب. فأصدر كتابه الأول من بعنوان “كيف تستطيع النظم الديمقراطية الانتصار على الإرهاب؟” ويقوم تصوّره على سياسة اللاّسلم وعلى محاربة [الإرهاب] بلا هوادة، وبديهي أنه يقصد بالإرهاب المقاومة الفلسطينية المشروعة وفق القانون الدّولي. وإجابته عن سؤال صحفي “هل ستبقى إسرائيل تقاتل باستمرار”، تكشف ذلك. فقد أجابه على النحو التالي: [هنالك توقع أن تتحول إسرائيل إلى ديزني لاند، لن يكون ذلك أليس ثمة في تاريخ الشعوب والدول من عاشوا كل الوقت بالحروب؟ سيبقى هنالك دائما قتلة ومجرمون وسنبقى دائما نحتاج إلى الشرطة لا يمكن البحث عن نهاية ذلك.]. فهذه الشخصية الدموية لا تستطيع أن تعيش بعيدا عن القتال الدموي العنيف وقد أثبت ذلك في علاقته بخصومه السياسيين داخل الليكود وخارجه قبل أن يثبته ضد الفلسطينيين.
يمثل نتنياهو رابع أربعة ترأسوا الليكود،وريث حزب “حيروت أي “الحرية” ووريث منظمة الأرجون الإرهابية قبل تفكيك تنظيمها وأسلحتها عام 1948ووصلوا إلى سدّة الحكم منذ تأسيسه في 1973، فقد وصل إلى رئاسته منذ 1992. ومنذ ذلك الحين غيّر من قانونه ومنح رئاسته صلاحيات واسعة وكشف عن نزعة دكتاتورية جلية. ولئن انتكست شعبيته في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي بسبب الاتهامات الموجهة له بالتحريض على إسحاق رابين ومشاركته في المظاهرات التي تعارض اتفاقيات أسلو، خاصة بعد فوزه بانتخابات 1996، فاتصقت به العبارة التورارتية [قتلت وأيضا ورثت] فإنه كان يعوّل على براغماتيته ليتجاوز محنه في كل مرة. فينحني ريثما تمر العاصفة ليبدأ مسيرة الصهيوني الذي يهجّر الفلسطينيين ويفتك بهم من جديد.
من مظاهر براغماتيته أنه صاغ خطابا جديدا إثر تلك الانتكاسة، معتبرا أن مهمة حكومته “لن تكون إلغاء اتفاقيات أوسلو، بل الحفاظ على ما تبقى من أرض إسرائيل”، مؤكدًا أن إسرائيل لن تحتل من جديد قطاع غزة، ولن تفكك السلطة الفلسطينية وأنه يقبل بفكرة حل الدولتين، بالنظر إلى الظروف الدولية والإقليمية وخضع للضغوط الأمريكية في تجميد الاستيطان في مناطق معينة. وحالما وجد الظروف الملائمة عاد إلى مواقعه الأيديولوجية، فأسقط هذا في دورة حكمه الثالثة حل الدولتين. وأعلن أن زمن إخلاء المستوطنين وتفكيك المستوطنات قد ولى من قاموسه السياسي. ورغم التعثّر الاقتصادي استطاع أن يصنع رأيا عاما معارضا للسلام في أغلبيته مطالبا بالمزيد من المستوطنات. وجعل سبيله غلى ذلك التحالف مع الأحزاب الدينية المتطرّفة واستقطاب المستوطنين داخل الليكود والتخلي عن بقية اتفاقيات أوسلو.
ـ 3 ـ
تعدّ العناصر المشكلة لأيديولوجية نتنياهو أسرية محضة. ففضلا عن تأثره بجده الحاخام نتان الذي انتقل من تبني صهيونية هرتسل إلى التيار الصهيوني التنقيحي، وهو تيار يدعو إلى إقامة إسرائيل الكبرى على أراضي الضفة الغربية والأردن بقيادة جابوتنسكي، كان لتفكير والده وقعا على تصوّراته الإيديولوجية. فقد نشأ بنتسيون نتنياهو في حضن المنظومة الأيديولوجية للحركة الصهيونية التنقيحية بدوره، وكان يدعو إلى تشييد جدار حديدي، بين الدولة الوليدة والعرب الذين يحيطون بها.
يقول هذا الأب عن العرب في مقابلة أجرتها معه صحيفة معاريف عام 2009 “لا يجد الكتاب المقدس [التناخ] أي صورة أسوأ من هذه الصورة الرجل القادم من الصحراء. لماذا؟ لأنه لا يحترم أي قانون، ولأنه يستطيع أن يفعل ما يحلو له في الصحراء… إن النزعة التي تميل إلى الصراع هي في جوهرها نزعة العربي. فهو عدو في جوهره وشخصيته لن تسمح له بالتوصل إلى أي تسوية أو اتفاق، وهو لا يلقي بالا لنوع المقاومة التي سيواجهها، أو الثمن الذي يتحتم عليه أن يدفعه، إن وجوده مرتبط بحرب أبدية”. وجليّ أنّ سياسية بنيامين نتنياهو تجسيد لهذه الخطوط الكبرى التي يحدّدها الانتماء الإيديولوجي الصهيوني للعائلة. وببراعته البراغماتية أنتج من مقتل شقیقه یونتان في عملية عنتيبي التي اختطف فيها الفلسطينيون واليساريون الأمميون الألمان يونيو 1976، طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية سردية بطولة العائلة وتضحيتها.
يختزل المؤرخ الإسرائيلي عوفر نوردهايمر سلطوية نتنياهو في نزع شرعية الخصوم السياسيين واتهام وسائل الإعلام بأنها معادية وغير وطنية ونزع شرعية المؤسسات التي تهدد روحه السلطوية وإحداث تفسخ بين المجموعات المختلفة، الأمر الذي يضعفها وعامة كان نتنياهو يعمل باستمرار على إقصاء المعارضين له وإحاطة نفسه بمن يضمن ولاءهم.
ـ 4 ـ
يؤطر نتنياهو مشروعه الصهيوني ضمن صراع الحضارات وينتهي الباحث إلى أنه ظل يعيد المقولات نفسها. واستنتج من ذلك عدم قدرته على التجديد والتطوير وتقديم مقاربات جديدة. فلم ينفك يردّد أنّ المشروع الصهيوني هو رأس الحربة من الصراع الحضاري بين الغرب المسيحي ـ اليهودي وبين الحضارة الغربية الإسلامية، وأنّ الصراع التاريخي بين المشروع العربي الإسلامي وبين المشروع الغربي يمتد إلى يومنا هذا، وأن القضية الفلسطينية هي جزء مركب من هذا الصراع الحضاري.
ولكن حرب غزة هذه الأيام، تثبت صواب تقدير نتنياهو. فالأمر لا يتعلّق بمبادرات فردية وقدرة على ابتكار التصورات بقدر ما يتعلّق بمشروع غربي ينفّذ على الأرض بثبات منذ بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين في ثمانينات القرن التاسع عشر. وما التضييق على التظاهر مساندة للفلسطينيين إدانة لإجرام إسرائيل وما المساندة الغربية أللا مشروطة للكيان الإسرائيلي وتبرير قتل المدنيين والاعتداء على المستشفيات إلا دليل على اعتماد الغرب المسيحي ـ اليهودي على المشروع الصهيوني في حربه على الحضارة العربية الإسلامية رغم الدعوات المنافقة إلى الحوار بين الأديان أو الحضارات.
ـ 5 ـ
يقول نتنياهو ظاهرا بمصالحة فلسطينية مقابل تسوية إسرائيلية. ويشرح الباحث الدلالات المقصودة من وراء هذه الاصطلاحات. فالتسوية تستند إلى موازين القوى لا إلى تطبيق القانون الدولي. وهي تخدم بجلاء الجانب الإسرائيلي وتساعده على فرض تصوراته. ومقابل التسوية التي تتحقق بين النّخب السياسية تمثل المصالحةُ الاعترافَ الشعبي بشرعية الطرف الآخر وتبنى روايته عن حقه التاريخي. ومع ذلك فليست هذه الشعارات إلا خطابا معدّا للاستهلاك الإعلامي ولتجنب الحرج مع المجتمع الدولي. فنتنياهو يفضّل في حقيقة الأمر إدارة الصراع مع الفلسطينيين دون إنهائه، آملا في تصفية قضيتهم واقتلاعها من جذورها وفاء لخلفياته الإيديولوجية.
يشرح نتنياهو هذا الموقف في قوله إن “إنتاج شعب فلسطيني وهوية وطنية فلسطينية كان مؤامرة عربية لإسقاط حق اليهود في فلسطين، فطيلة هذا التاريخ الطويل، لم يعرب السكان العرب في أرض إسرائيل، وإن تلميحا، عن رغبة في الاستقلال القومي، أو في ما يعرف اليوم بـ تقرير المصير”. كان هنالك عرب عاشوا في أرض إسرائيل مثلما عاش عرب آخرون في أماكن أخرى كثيرة، ولكن لم يكن هناك شعب فلسطيني ذو وعي قومي أو هوية قومية، أو حتى مصالح قومية مشتركة. ومثلما لم تكن دولة فلسطينية، لم يكن كذلك شعب فلسطيني، أو ثقافة فلسطينية”..
وليس هذا التفكير غير امتداد لإيديولوجيا والده بنتسيون نتنياهو التي يعلنها على رؤوس الأشهاد. فيقول “يمثل الإرهابي (يقصد الفلسطيني المقاوم للاحتلال الصهيوني) إنسانا من نوع جديد، يعيد الإنسانية إلى فترة ما قبل التاريخ، إلى فترة لم تكن فيها الأخلاق، وبما أنه لا يعترف بآية قيمة أخلاقية وعديم كل شعور أخلاقي، فإنه عديم الضوابط الأخلاقية. لذا، هو قادر على ارتكاب كل جريمة، وكما هي ماكينة القتل، فإنه يقوم بأفعاله بلا خجل وبلا أخلاق، ولكنه أيضا كاذب مخادع بصورة كاملة، ولذلك فإنه أخطر بكثير من النازية التي كانت تصرح بأهدافها على في ما يتعلق بالحقيقة، هو أي الإرهابي عدمي نحو علني كامل”.
ـ 6 ـ
عمل الكتاب على محاولة فهم دوافع سياسات نتنياهو المتعلقة بالقضية الفلسطينية، من جهة دوافعها الإيديولوجية ومن جهة الاعتبارات البرغماتية السياسية. فيجد أنها تتغير بتغير المعطيات والوقائع السياسية الإقليمية والدولية فتظهر المرونة وعدم الارتباط بأسس. وعند مقارنه نتنياهو بخصمه شارون يقدّر أنّ ” شارون رمى إلى تغيير الواقع، بينما يقتنص نتنياهو التغيرات التي حدثت وتحدث في الواقع السياسي والإستراتيجي ويلقي بنفسه عليها، عبر استغلالها وأدلجتها، وتوخياً للدقة، يمكن القول إن شارون يغير الواقع رغم ثقله، ونتنياهو يقتنص فرصا يفرضها الواقع ولا يصنعها هو”. ورغم هذه البراغماتية الظاهرة على السطح يختفي في طبقات سياسة نتنياهو العميقة تصلّب ناشئ عن خلفياته الصهيونية التنقيحية المغالية في تطرّفها.
صحيح أنّ بنيامين نتنياهو براغماتي عالق في الحكم ويغرق في الدماء للحفاظ على احتمائه بالسلطة من زنزانات السجون. ولكن وراء سياساته خلفيات إيديولوجية ظاهرة هي المشروع الصهيوني وأخرى أكثر خفاءً هي إجهاض كل محاولة عربية للنهوض لضمان هيمنة الغرب على مصادر الطاقة. وسواء اعتبر العرب أنفسهم معنيين بالقضية الفلسطينية أو رفعوا الأيادي عنها يظلون مستهدفين من قبل الأهداف البعيدة لهذا المشروع. هذا ما على العرب استقراؤه من السياسات الإسرائيلية ومن التعاطي الغربي مع مجريات الحرب على غزة هذه الأيام.