معركة الوعي (187) إخفاء الحقائق لا يلغيها
حامد اغبارية
منذ اللحظات الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إلى هذه اللحظة، فشلت الرواية الإسرائيلية حول مجريات الواقع الميداني في تقديم معلومة واحدة صحيحة حول ذلك الكم الهائل من “الإنجازات” التي يتفاخر بها نتنياهو وجلانت وجانتس في كل إطلالة لهم على الشاشات مجتمعين ومنفردين، ومن خلفهم المتحدث العسكري الذي يقدم يوميا وجبة دسمة من الأضاليل؛ ذلك الظهور الذي بات يبدو بوضوح وكأن الرجل يتحدث إلى نفسه أمام كتيبة الإعلام المجنّدة، حتى أن المتلقي الإسرائيلي قد أصابه الملل الشديد منه، وبدأ يُعرب عبر شبكات التواصل، وفي مقالات تحليلية ومقالات رأي عن عدم تصديق ما يقدمه هؤلاء، لأن المعلومات التي تسندها الأدلّة بالصوت والصورة والتي تملأ وسائل الإعلام غير الإسرائيلية تقدم صورة معاكسة لما يقوله هؤلاء.
وإننا نشهد اليوم على الساحة الإسرائيلية الداخلية تغيّرا متصاعدا في الموقف من الحرب على غزة ومن أداء نتنياهو تحديدا وفشله في تحقيق أي شيء مما أعلنه عشية شنه تلك الحرب الدموية. وهذا ما لم يحدث في المراحل الأولى من الحرب، حيث كان هناك إجماع إسرائيلي ووقوف خلف نتنياهو ومجلسه الحربي وأهدافه التي أعلنها.
وهذا التغير في المواقف يمكن تفسيره بعنوان واحد تحته تفصيلات كثيرة: الفشل الذريع في تحقيق الأهداف في أطول حرب يخوضها جيش الاحتلال منذ 1948. فيوميا تصدر بيانات عسكرية بسقوط قتلى من الضباط والجنود في أرض المعركة، ويوميا تخرج جنازات عسكرية خلف جنازات، ومن حين إلى آخر يُعلَن عن قتل عدد من الرهائن في غزة، وهم الذين كان العمل على تحريرهم أحد الأهداف الرئيسية لهذه الحرب، ويوميا تطلق عائلات هؤلاء الرهائن صرخات الاتهام في وجه نتنياهو بأنه يتسبب في موتهم بسلاح جيشهم بدلا من تحريرهم، معلنين عدم تصديقهم لنتنياهو حين يتهم المقاومة الفلسطينية بأنها هي التي قتلتهم، ويوميا نسمع أصواتا من ذوي الجنود القتلى تتهم نتنياهو وحكومته بأنهم يرسلون أبناءهم للموت دون طائل، ويوميا نسمع صرخات جنود الاحتياط الذين دمرت الحرب حياتهم الاجتماعية وأوصلتهم إلى الحضيض الاقتصادي، علما أن غالبيتهم من رجال الأعمال وأصحاب المصالح التجارية أو الشركات وغير ذلك.
هذا المشهد غير المسبوق ليس مفاجئا. فصدمة السابع من تشرين الأول، كما كانت سببا في الاصطفاف الأعمى خلف الحرب، أصبحت الآن سببا في وقفة لجرد الحساب ودفع الأثمان، دون أن ننسى أن المجتمع الإسرائيلي لم يكن موحدا يوما من الأيام كما تبدو الصورة في الإعلام المجند، وهو الآن غير موحد، مع ضرورة التذكير بأن هذا المجتمع كان قبل السابع من تشرين منقسما انقساما حادا وصل إلى حد المواجهات ورفض الخدمة وإغلاق الشوارع وملء الساحات بمظاهرات غير مسبوقة على خلفية ما يسمى بخطة الإصلاح القضائي. هذا الانقسام لم ينته لمجرد شن الحرب على غزة، بل جُمّد إلى أجل مسمى، أظن أنه أجلٌ لن يطول حتى تمتلئ الساحات والميادين والشوارع بمظاهرات تطالب بوقف الحرب وعقد صفقة تبادل غير مسبوقة مع المقاومة الفلسطينية توصل في نهاية المطاف إلى عقد هدنة طويلة المدى.
ولن ينسى منظمو هذه المظاهرات المطالبة بالإطاحة بنتنياهو ومن حوله ومحاسبتهم حسابا عسيرا.
أما توقيت هذا التحرك فمتعلِّق بالكشف عن الحقائق الصادمة الجارية في ميدان القتال، وفي مقدمة هذه الحقائق أعداد القتلى من الضباط والجنود والخسائر في العتاد، والمزيد من الغوص في رمال غزة، يرافقه فشل ظاهر في تحقيق الأهداف، يقابله المشاهد الفظيعة التي تتصدر الأخبار يوميا عن جرائم حرب يرتكبها جيش الاحتلال ضد المدنيين في غزة، وأعداد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، ومشاهد الدمار الذي لا مثيل له في العصر الحديث، وما يتبع ذلك من انفضاض غربي عن تل أبيب، وضغوط شعبية عالمية ليس فقط لوقف الحرب وإنما لمحاسبة الاحتلال على جرائمه ضد مليونين ونصف المليون من الفلسطينيين كانوا أصلا يعانون الأمرّين من حصار يضربه الاحتلال منذ 16 سنة اختتم بهذه الحرب التي يجمع المراقبون على أنها حرب إبادة انتقامية أكثر من كونها صراعا عسكريا بين طرفين.
هناك حقائق تجري على أرض غزة. وهذه الحقائق، بكل صورها وأشكالها، ليست لصالح الرواية الإسرائيلية، بل هي عكس ما تروج له الرواية الإسرائيلية. ولذلك عمدت المؤسسة الإسرائيلية في الأيام الأخيرة إلى تشديد الرقابة العسكرية على كل ما يُنشر، وتضييق الخناق على المعلومات القادمة من أرض المعركة، ليس لأنها تهدد الأمن كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل لأنها تشكل فضيحة، إذ تقدّم صورة مغايرة عما يريده مجلس الحرب والمتحدث العسكري الذي يكرر في مؤتمراته الصحافية اليومية مقولة: (لا تنشروا الإشاعات، واعتمدوا فقط ما نقوله لكم). لماذا؟ لأن الإشاعات في حقيقتها ليست إشاعات، بل حقائق. ومهما حاولت الرواية الإسرائيلية الرسمية إخفاء الحقائق فإن هذا لا يلغي وجودها.