معركة الوعي (185) ورطة نتنياهو التي لا مخرج منها
حامد اغبارية
مع تزايد أعداد قتلى الجيش الإسرائيلي في المعارك التي يخوضها في قطاع غزة، وفي مقدمتهم ضباط كبار، وفشل ذلك الجيش في تحقيق أيّ من الأهداف التي وضعها له مجلس الحرب المصغر، وضبابية الرؤية العسكرية والسياسية، إلى جانب ارتفاع منسوب الغضب في الشارع الإسرائيلي، وازدياد الأصوات التي تطالبه بالاستقالة، والأصوات التي تدعو إلى محاسبته حتى أثناء الحرب، يجد نتنياهو نفسه في ورطة كبيرة ومعقّدة لا يجد منها مخرجا ولا يجد لها حلا. فهو من جهة وضع، عشيّة شنه تلك الحرب المجنونة، سقفا عاليا من الأهداف؛ في مقدمتها إنهاء وجود حركة حماس وحكمها في غزة، وتحرير أسراه من أيدي المقاومة الفلسطينية بقوة السلاح، لكنّه لا يجد لهذه الأهداف أفقا ولا بوادر ميدانية لتحقيقها، وهذا ما تؤكده تحليلات الخبراء الإسرائيليين والغربيين السياسيين والعسكريين على حد سواء. بل وتؤكد هذه التحليلات أن النتيجة فيما يبدو قد جاءت عكسية. فإن الثمن بالأرواح والمعدات وانكماش الأهداف إلى أدنى حدودها أكبر بكثير مما كان متوقعا، بل كان ثمنا صادما بكل المعايير.
ومن جهة ثانية لا يستطيع نتنياهو التراجع والتوقف لأن هذا يعني بالتأكيد نهاية مسيرته السياسية واختفائه كليا عن الساحة الإسرائيلية، وغالبا سيكون الثمن الذي سيدفعه شخصيا هو السجن، ربما ليس بسبب مسؤوليته عن الفشل الأمني يوم السابع من تشرين الأول الماضي، ولكن على خلفية الملفات الجنائية التي تُنظَر أمام القضاء منذ فترة طويلة. ولهذا فإن نتنياهو يعمل على إطالة أمد الحرب إلى أقصى ما يمكن لعله يخرج منها بـ “غنيمة” يرجع بها إلى المجتمع الإسرائيلي تشفع له وتساعده على التخلص من ورطته التي أوقع نفسه فيها.
لم يعد سرا أن المجلس العسكري المصغر يشهد خلافات بين أعضائه حول إدارة المعركة وحول أهدافها والعجز المتمكن منهم في تحقيق شيء يذكر. ونتنياهو أكثر أعضاء ذلك المجلس في ذلك المجلس إصرارا على مواصلة الحرب ودك البيوت والأبراج والمواقع المدنية من مساجد ومدارس ومؤسسات صحية ومستشفيات وبنى تحتية وسحق أجساد الأطفال والنساء والشيوخ من المدنيين، بينما يميل زميلاه في المجلس (جلانت وجانتس) إلى مواقف مختلفة، رغم اللهجة الشديدة التي يخرجان بها إلى الإعلام، والتي يكرران فيها التأكيد على هدفي إنهاء حكم حماس وتحرير الأسرى. لكن الملاحظ أن حديثهما عن هذين الهدفين لا يتضمن شيئا عن الوسيلة أو الوسائل التي سيتحقق بها الهدفان، وهذه مسألة مهمة للغاية. ففي تصريحاتهما اعتراف ضمني بالفشل العسكري وفتح الباب على حلول سياسيّة.
من أجل ذلك هناك أهمية كبيرة في زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي إلى تل أبيب، إذ من شأنها أن تنقذ الموقف الإسرائيلي الذي يزداد يوما بعد يوم، وخاصة مع دخول الحرب شهرها الثالث دون طائل أو دون أن يلوح في الأفق فسحة أمل. ويبدو أن أهمية هذه الزيارة تكمن في أن واشنطن قررت العمل على إنقاذ تل أبيب – وليس نتنياهو- من الوحل الغزي الذي تورطت فيه. فكل ما قدمته الولايات المتحدة من سلاح وأموال طائلة ودعم سياسي لم ينفع بشيء، بل انقلب على بايدن الذي بدأ في الأيام الأخيرة يغيّر من لهجته بصورة دراماتيكية، ليس لأن ضميره استيقظ فجأة- لا سمح الله- فهو يتقدم صفوف عصابة دولية لا ضمير لها، تستحي حتى المافيا من ضمها إلى صفوفها، وإنما لأنه بدأ يدرك أن موقفه هذا سيسبب له خسارة كبيرة في الانتخابات القادمة، والأهم من ذلك فقدان واشنطن مكانتها في المنطقة العربية والإسلامية، وارتفاع منسوب الكراهية لأمريكا بشكل غير مسبوق؛ ليس فقط على مستوى منطقتنا بل على مستوى العالم.
يمكننا أن نستقرئ مما يدور خلف الكواليس، وهو كثير، بل أكثر مما نتخيل، أن تل أبيب بدأت تشعر بسخونة وحل غزة على جلدها، وبدأت تبحث عن مخرج تحفظ من خلاله ماء وجهها، وتخرج من الورطة ليس بصورة النصر التي تبحث عنها منذ أكثر من شهرين، بل عن خروج لا يفسَّر على أنه هزيمة.
في اليومين الأخيرين تداول الإعلام العبري أخبارا عن توجه نتنياهو إلى مصر وقطر من أجل عقد صفقة تبادل للأسرى مقابل وقف إطلاق النار. وهذه إشارة تحمل دلالات ذات أهميّة، من أن كواليس السياسة تشهد عمليا مفاوضات حثيثة لتحقيق وقف لإطلاق النار وإنهاء هذه الحرب التي يرى العالم كله أن ضحاياها هم من المدنيين في غزة. وأعتقد أن الأيام القريبة جدا ستشهد انفراجة ما، تقف خلفها تفاصيل هدنة طويلة المدى، يجري خلالها تنفيذ عملية تبادل ليست تل أبيب هي الطرف الرابح فيها. فهي تريد وقفا لإطلاق النار مقابل أسراها، والمقاومة تريد التبادل على قاعدة “الكل مقابل الكل” مع وقف إطلاق النار ونسيان أوهام نتنياهو. والمسألة مسألة عض أصابع، فمن الذي سيصيح من الألم أولا؟
عندما تبدأ التفاصيل الحقيقية للخسائر الإسرائيلية تتكشف بالأرقام والأسماء سوف ينتفض الشارع الإسرائيلي ضد قيادته التي خدعته طوال فترة الحرب وأوهمته بالنصر المبين…
هذا مع علم الجميع أن الشارع الإسرائيلي يغلي كالمرجل، لكن القيود التي تفرضها ظروف الحرب تحول دون خروج المارد من القمقم. غير أن هذا لن يستمر إلى الأبد، وهو ما يؤكده محللون إسرائيليون كثيرون. فحجم الغضب في الشارع الإسرائيلي لا يمكن تخيّله، خاصة في أوساط ذوى الرهائن والأسرى الذين أصلوا لنتنياهو في الأيام الأخيرة أكثر من رسالة ملخصها أنه بسياسته وإصراره على مواصلة الحرب سيتسبب في قتل الرهائن والأسرى، وأنه إذا حدث هذا فعلا فإن الثمن الذي سيدفعه سيكون كبيرا.