كتاب مفتوح من خُدَّج وَرُضّع في يوم الطفل العالمي
الشيخ رائد صلاح
هكذا هو حال المدنية المعاصرة الممتدة اليوم، ما بين واشنطن وبكين وموسكو ولندن وباريس وبرلين وروما، مرورًا بكل توابع هذه العواصم في كل قارات الدنيا، حيث باتت تتباهى هذه العواصم وتوابعها بمدنيتها القاحلة كصحراء الربع الخالي، وباتت تُترجمها بناطحات السحاب من جهة والتشدق بشعارات السلام العالمي وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير والثورة العلمية وتصدير الديمقراطية والحرية والمُساواة لكل شعوب الأرض.
وهكذا بدأ التطاول في البُنيان بين كل هذه العواصم وتوابعها، وبدأ سباق التسلح وغزو الفضاء والذكاء الاصطناعي بينها، وها هي اليوم تقتسم كل الأرض وترسم مساحة نفوذ كل العالم المُعاصر، وإلى جانب كل ذلك باتت كل مجموعة من هذه العواصم وتوابعها تقيم لنفسها حلفًا عالميًا بهدف أن يضع يده على أكبر مساحة نفوذ من اليابسة والبحار والممرات المائية ومصادر النفط والعمالة البشرية وأرزاق المُستضعفين في العالم العربي والعالم الإسلامي والعالم الأفريقي وعالم أمريكا الجنوبية، وهكذا تحولت البشرية في حساباتهم إلى قطع غيار ومادة استهلاكية لا قيمة لها ولا لون لها ولا رائحة ولا وزن ولا اعتبار إلا بقدر ما تُسهم كقوافل العبيد في بناء المدنية المُعاصرة العارية لهذه الأحلاف العالمية، ولا بأس في حساباتها وهي تواصل حتى هذه اللحظات استعمار الشعوب المُستضعفة واحتلال أرضها ونهب خيراتها واستعباد عمالتها أن تُغني لهذه الشعوب البائسة بين الحين والآخر أغنية تُدغدغ مشاعر هذه الشعوب وآلامها وآمالها، كأن تُغني لها عن الإنسانية والتحرر والاستقلال والجندرية والانفجار الأخلاقي ومزاعم الأممية والمُنظمات الدولية.
وفي الوقت الذي ملأت فيه هذه الأحلاف العالمية صانعة المدنية المُعاصرة المُشوهة في الوقت الذي ملأت فيه الأرض جورًا وظلمًا راحت في نفس الوقت تمسح على رؤوس الشعوب المُستضعفة وتقول لها: لا تقلقي فقد أقمنا لكم ناطحة سحاب في نيويورك أسمها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجمعية العمومية وسائر توابعها، وأقمنا لكم مُنظمة الصحة العالمية ومنظمة العفو الدولية والأونروا ووكالة الغوث ومحكمة الجنايات الدولية، وعززنا ذلك بالمواثيق الدولية التي تُحرّم سلفًا جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، ووأد الطفولة وامتهان المرأة وتدنيس المُقدسات واقتحام المُستشفيات، ومُحاصرة المدنيين ومنع الماء والغذاء والدواء والكهرباء عنهم.
فصرخت الكارثة الإنسانية في غزة في وجه كل هذه الأحلاف العالمية حاضنة هذه المدنية المُعاصرة العوراء، وها هي تقول لهم قولًا بات يدوّي فوق كل أرض وتحت كل سماء: كلكم كاذبون!!، وها هو هذا القول ينطلق الآن على ألسنة الخُدّج في غزة وعلى ألسنة رُضعّها، وكأني بهؤلاء الخُدّج والرُضّع باتوا يُكلمون الناس في المهد، وباتوا يُكلمون هذه الأحلاف العالمية مؤسسة هذه المدنية المُعاصرة مُتحجرة المشاعر وميتة الأحاسيس وقاسية القلوب، وباتوا يقولون لها: لقد قتلتنا مدنيتكم المُعاصرة المُزيفة ولم يمضِ على خروجنا إلى الدنيا إلا ثوان أو دقائق أو ساعات!!، لقد حرقتنا وذاب لحمُنا وعظامنا ورؤوسنا!!، لقد صادرت منا سلفًا البسمة الصافية والفرحة البريئة والأحلام الجميلة!!، لقد حرمتنا من حليب أمهاتُنا ومن قُبلات أمهاتُنا ومن أنفاس أمهاتُنا ومن أحضان أمهاتُنا!!، لقد نقلتنا من الأرحام إلى القبور، وأحالتنا جنائز فوق الأكتاف، وفي صدور الأمهات الثواكل !!، لقد حكمت علينا بالإعدام سلفًا ونحن أجنة في بطون أمهاتُنا، وكأني بها كانت تستقبل خروجنا من ظُلمات تخلقنا إلى نور ميلادنا بحبال الإعدام وأعمدة المشانق ونحنُ على الفطرة، وقلوبنا صافية كالماء الزُلال، ونفوسنا مطمئنة، وصدورنا نقية، لم تحمل حقدًا على أحد، ولا كراهية لأحد، ولا اشمئزازًا من أحد، فما هو ذنبُنا حتى تعدمنا مدنيتكم المُعاصرة المُكبة على وجهها؟!، هل ذنبنا أننا خُدّج فلسطينيون وَرُضّع فلسطينيون؟! هل ذنبنا أننا خُدّج وَرُضّع ولدنا في غزة؟! هل ذنبنا أننا خُدّج وَرُضّع خرجنا في غرف الولادة أحياء، وكأن مطلوبكم ومطلوب مدنيتكم المُعاصرة الجوفاء أن نخرج ميتين، أو أن نخرج مُشوهين، أو أن نخرج صُمًّا وبُكمًا وعُميا، وعندها ستشفقون على خُداجنا وعلى رضاعنا على اعتبار أننا ذوو عاهات كما تشفقون على ذوي عاهاتكم؟!، أم ذنبنا أن صواريخ الطائرات وقنابل المدافع ورصاص الرشاشات لم تنجح بقتل أمهاتنا قبل أن تلدنا، وكأن مطلوبكم ومطلوب مدنيتكم المُعاصرة البلهاء أن تقتل أمهاتنا الحوامل بنا سلفًا، وهكذا تضمنوا موتنا سلفًا دون أن ترف لكم رموش عين من عيونكم؟!
ثم ها هم أطفال غزة إلى جانب خُدّجُها ورُضّعها يضمون أصواتهم إلى صوت هؤلاء الخُدّج والرُضّع الغزيين ويصيحون صيحة طفولة تعلو على ضجيج الطائرات ولعلعة الدبابات وأزيز الرصاص، ويُنادون نداء يُسمع هذه الأحلاف العالمية رغم أنفها، ورغم ارتدادها عن انسانيتها، ورغم مصادمتها لضمائرها وها هم يقولون لها: هل مدنيتكم المُعاصرة العقيم بلا أطفال، وبلا طفولة، وبلا عالم طفولة، ولذلك تجرأتم علينا وعلى طفولتنا وعلى عالم طفولتنا، وكأن مُجرد وجودنا يُغيظكم ويكشف لكم عن عورة مدنيتكم المُعاصرة المُزيفة؟!، ألستم أنتم الذين بتم تُفضلون تربية كلاب وقطط على تربية أطفال لكم؟! فهل هذا ذنبنا أننا نذكركم بهذا العوار الذي أرزى بمدنيتكم المُعاصرة المتآمرة على الطفولة أصلًا؟! أيتُها الأحلاف العالمية المُتغطرسة المُتفرعنة كم يصدُق فيكم المثل القائل: فاقد الشيء لا يُعطيه، فأنتم قد صنعتم لأنفسكم مدنية مُعاصرة بلا مشاعر وأحاسيس وعاطفة، لذلك لا عجب ألا تشفقوا علينا، وكيف تشفقون علينا وأنتم فاقدو الشفقة، وها هي قواميس لغتكم فاقدة لفظة الشفقة، وها هو إعلامكم يجهل معناها، وها هي أفلاكم تدعو إلى ضدها، وها هي قيمكم الاستهلاكية تتنكر لها، لكل ذلك لا عجب أنكم لم تشفقوا على طفولتنا التي تتمزق إربًا تحت أنقاض البيوت،
ولم تشفقوا عليها وقد بُترت قدم فيها أو يد ودُفنت تحت التراب منقوصة الأعضاء وقد خلقها الله في أحسن تقويم، ثم لم تشفقوا عليها، ولا زلتم لا تشفقون عليها وهي تجري من شارع إلى شارع، ومن مُستشفى إلى مُستشفى، ومن ملجأ إلى ملجأ، ومن شمال غزة إلى جنوبها، ومن جنوبها إلى شرقها، ومن شرقها إلى غربها، نجاة بروحها الطاهرة من هول القصف والدمار، وبحثًا عن لقمة غذاء وشربة ماء وحبة دواء وكسوة رداء ونقاوة هواء ونور كهرباء، ولكن هيهات هيهات، فمعبر رفح مُغلق، ولا يمر منه إلا النزر اليسير الذي بات يقفز عن طفولتنا، وكأن غزة بلا أطفال منذ القِدم!!، ألا تخجلون على أنفسكم؟! يا عجبًا لكم كيف تنجحون أن تناموا وأنتم لا تزالون تدوسون على طفولتنا المُكللة بالآلام؟!، ألم تشفقوا على طفولتنا في منامكم على الأقل؟! ولكن اعلموا أن طفولتنا منكوبة، ولكنها لن تنقرض، وسيكبُر أحياء طفولتنا، ونعدكم أننا عندما نُصبح رجالًا فلن نحقد على أطفالكم، بل سنغمُرهم بالرحمة لأن كل إناء بما فيه ينضح.