أيها المقهورون صبرًا، إنَّ بعد الليل فجرًا
الشيخ كمال خطيب
“صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”. من مِن المسلمين في الماضي وفي الحاضر عربًا وعجمًا، صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساء، لا يعرفون هذه الكلمات التي نطق بها فم الحبيب محمد ﷺ. إنها قصة عائلة مباركة تتكون من الوالد ياسر والوالدة سمية والأخوين عمار وعبد الله. إنها قصة أسرة كريمة كانت من أوائل الأسر والعوائل المباركة التي أسلمت وأمنت برسول الله ﷺ، وقد ساوموها على إسلامهما فما ساومت، فكان أن نزل عليهم العذاب وصُبّ صبًا حتى أنهم أي المشركون، كانوا يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة إلى رمضاء مكة حيث تجتمع عليهم حرارة الشمس وحرارة الرمل والحصى فيعذبونهم أشد العذاب، فكان النبي ﷺ يمر بهم ولا يمكنه فعل شيء سوى أن يقول: “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”. مات ياسر تحت العذاب من شدته، وطعن أبو جهل سميه بحربه في قلبها وهي ممدودة على الأرض تعذب، فقتلها فكانت أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها.
أمَّا عمار فقد روى أبو أبلج بن عمرو بن ميمون قال: “عذب المشركون عمار بالنار فكان النبي ﷺ يمر به فيمسح بيده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار كما كنت بردًا وسلامًا على إبراهيم”.
لقد وصل العذاب النازل على عمار إلى الحد الذي قال عمر بن الحكم: “كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول”. وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: “أخذ المشركون عمار فلم يتركوه حتى نال من رسول الله ﷺ وذكر آلهتهم بخير. فلما أتى النبي ﷺ قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، والله ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان. قال: فإن عادوا فعد. فأنزل الله تعالى قوله: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آية 106 سورة النحل.
عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي نزلت آيات القرآن تدافع عنه وتنفي عنه شبهة انحرافه عن الحق، وهو الذي قال عنه ﷺ: “إن عمار مُلئ إيمانًا إلى مُشاشهِ”. وعمار الذي لما سئل حذيفة بن اليمان أمين سر النبي ﷺ والذي لم يُطلع النبي ﷺ أحدًا غيره على أسماء المنافقين، فكان وهو في سكرات الموت يسأله أصحابه الحافون به قائلين: “بمن تأمرنا إذا اختلف الناس؟ فكان يجيبهم وكانت آخر كلماته: عليكم بابن سمية فإنه لن يفارق الحق حتى يموت”.
لقد نزل بعمار ما نزل من العذاب وقد أصبح هو وآل بيته مضرب الأمثال في الصبر والاحتمال “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”. وهو الذي عاش أكثر من 90 سنة وكان قد أسلم شابًا صغيرًا. لقد قضى كل ذلك العمر في نصرة الإسلام لكنه مات ولم ير الإسلام قد عزّ وامتد وانتشر في ربوع الأرض، نعم لم يقطف عمار ثمار جهده وجهاده وبذله وتضحياته، فلم يبق من عمار سوى ذكريات الألم والعذاب والزفرات تصدر منه ومن والديه وأخيه.
ما أطولها قائمة الشرف تلك التي ضمت أسماء كثيرة من أصحاب رسول الله ﷺ رجالًا ونساء ممن لشدة حبنا لهم فإننا نسمي أبناءنا وبناتنا وأحفادنا وحفيداتنا بأسمائهم، كعمار وياسر وسمية وزينب ورقية وأم كلثوم وأنس وحمزة وسعد ومعاذ وبلال وغيرهم كثير، كل هؤلاء ماتوا ورحلوا قبل أن يروا الإسلام وقد عزّ والمسلمين قد أصبحوا سادة الدنيا وقادتها.
لقد مات هؤلاء رضي الله عنهم وفي عيونهم الدموع وفي صدورهم الزفرات وعلى جلودهم آثار الجراح والحروق والكدمات، ماتوا ورحلوا وقد تركوا بصمات في نصرة الإسلام على أمل أن يكون جزاؤهم صحبة محمد ﷺ في الجنة كما كان يردد بلال: “متى ألقى الأحبة محمدًا وصحبه”.
لكن ذلك الجيل رضي الله عنهم وهم خير الأجيال وخير القرون كما قال ﷺ: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم”. أبناء ذلك الجيل لم يروا فتوحات عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستلم تاج كسرى ملك ملوك ذلك الزمان بعد هزيمته في معركة القادسية، ولم يحضروا مراسم تسلّم عمر مفاتيح القدس من بطريرك الروم ويصلي في المسجد الأقصى المبارك، ولم يشهدوا قسم عمر لما سمع بحشود الروم على أطراف الجزيرة العربية فأرسل إلى خالد بن الوليد أن ينتقل من الجبهة في بلاد فارس إلى الجبهة في بلاد الروم وهو يقول: “والله لأنسينّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد” فكانت اليرموك وقبلها كانت قادسية سعد بهما ذلّ كسرى وهرقل.
كمثل سعد وكسرى يستهين به وجيش رستم إعصار يلاقيه
فما لكسرى غداة القادسية لا يلقى من القوم إنسانًا يواسيه
ومن لرستم والفرسان تخذله والطعن كالغيث يأتيهم وتأتيه
وابن الوليد وما في الأرض من نغم كمثل قعقعة إلا رماح يشجيه
فمن يجير هرقل الروم فمن محن ستدلهم عليه ثم تطويه
ولست أنسى صلاح الدين وهو على مشارف الأقصى يناجيه
جئنا إليك نرد الغاصبين وما قد هدّموا منك بالأرواح نبنيه
هذي نماذج قد جاء الزمان بها فلألأت كالثريا في دياجيه
واليوم ينتهز الأعداء غيبتها عن شرقنا ليعيثوا في نواحيه
أيحسب الغرب أن الشرق يتركه يمتص خيراته والفقر يشفيه
والمسلمون أليس الغرب يعرفهم أم أن أحقاده العمياء تنسيه
والغرب يعرف من حطين صولتهم وإن تبجح فالتاريخ يخزيه
إن أبناء ذلك الجيل قد لاقوا من العذاب ما لاقوا، ورحلوا ولم يشاهدوا عزّ الإسلام وصل إلى درجة أن يدخل ربعي بن عامر على مجلس رستم قائد جيوش الفرس ويربط حصانه بكرسي مجلس قيادة الفرس، وليقول كلمته أمام دهشة رستم ورموز جيشه: “نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
إنهم رحلوا وماتوا وفيهم من الألم والعذاب ما لا تطيقه الجبال دون أن يسمعوا صوت عقبة بن نافع يقف على حصانه في ماء المحيط الأطلسي “بحر الظلمات” يخاطب بعزته وشموخه: “اللهم رب محمد لو أني أعلم أن خلف هذا البحر أرضًا لخضت البحر لإعلاء كلمتك يا رب العالمين”.
إنهم رحلوا ولم يدُر بخلدهم أن عزّ الإسلام سيبلغ إلى حد أن يخاطب هارون الرشيد الغمامة في السماء يقول لها: “أمطري أو لا تمطري فحيث تمطري فإن خراجك آت إليّ”.
إنهم رحلوا ولم تطرب آذانهم على هدير صوت المعتصم يرسل إلى هرقل الروم بعد أن أسر الروم امرأة مسلمة على أطراف العراق قائلًا: “من خليفة المسلمين المعتصم إلى هرقل كلب الروم، اسمع يا ابن الكافرة، فإذا بلغك كتابي هذا فأطلق سراح المسلمة وإلا فوالذي بعث محمدًا بالحق لأسيّرن لك جيشًا أوله عندك وآخره عندي”.
إنهم رحلوا ولم يمتعوا أعينهم برؤية ملوك فرنسا وإنجلترا والنمسا مصفّدين بالأغلال والحديد أسرى في يد صلاح الدين، وهم الذين جاؤوا ودنّسوا الأقصى وجعلوه اسطبلًا بخيولهم وشربوا جنودهم الخمرة على منبره ومنعوا الآذان من مآذنه ورفعوا الصلبان على قبابه.
لقد رحل أولئك الصحابة ومنهم عمار ولم يحظوا باللحظة التي أطلق فيها صلاح الدين الملوك الأسرى لكنه أصرّ على أن يأتوه بأمير الكرك الصليبي أرناط الذي كان يقف يقطع طريق الحجاج المسلمين فيقتل الرجال ويغتصب النساء وهو يقول لهم: أين محمد ينتصر لكم؟”. فلما وقف بين يدي صلاح الدين قال له صلاح الدين: ها أنا أنوب عن رسول الله وأنتصر لمن قتلت واغتصبت، وقتله بيده وأطاح برأسه.
ما أكثرها الأمثلة تذكرنا بأن من قال لهم النبي ﷺ: “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”، إنهم وأمثالهم قد ماتوا وتركوا لنا بصمة في خدمة الإسلام وجاء من بعدهم وقطفوا ثمار عذاباتهم وتضحياتهم. إنهم أولئك الذين خطوا الخطوات الأولى على طريق الإسلام وماتوا في بداية الطريق دون أن يصلوا إلى آخره.
واليوم في الزمان الذي نعيش، فلا تسأل عن نهاية الطريق وإنما الأهم من ذلك أن تظل على الطريق وعلى الجادة، وأن تدور مع الإسلام حيثما دار عاملًا بوصية رسول الله ﷺ: “ألا وإن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارق الكتاب”.
دوروا مع القرآن، مع الإسلام وليس مع السلاطين والزعماء والملوك والرؤساء الذين ضلّوا وأضلّوا، بل أصبحوا أشد على الإسلام حربًا من أعدائه.
فإذا كان آلـ ياسر قد نالوا شرف رؤية النبي ﷺ ولكنهم لم ينالوا شرف رؤية الإسلام عزيزًا قويًا شامخًا، وإن كان ﷺ قد ضمن لهم الجنة “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”. فإننا وفي زماننا الذي نعيش فإننا نقول واثقين مطمئنين لمن يسيرون على درب سمية وياسر وعمار، لمن هم على نهج خباب وبلال إننا نقول للمقهورين والغرباء وقد خذلكم الأشقاء وتكالب عليكم الأعداء، فليس فقط إن موعدكم الجنة في الآخرة، بل إن موعدكم بإذن الله في الدنيا وقريبًا أن تروا رايات الإسلام مرفوعة وصوت الآذان يدوي في ربوع الدنيا، وأن تروا للإسلام دولة وأن تروا كيف سيبدل ضعفنا قوة وذلنا عزًا وشتاتنا وحدة.
فاذا كان وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل ياسر بالجنة، فإنه وعد الله ووعد ورسوله ﷺ بعزّ الاسلام وظهوره على الدين كله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} آية 28 سورة الفتح. {وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 6 سورة الروم.
كبير مفرق صبري واحتمالي كبير أنت يا قهر الرجال
وكنت أقول للدنيا إذا ما أتتني بالمصائب لا أبالي
فكان فراق من يهواه قلبي أشد علي من وقع النبال
ولكني أصبره برب رميت على محامله حمالي
فيا أيها المقهورون صبرًا إن بعد الليل فجرًا.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.