الكارثة الإنسانية في غزة جرس انذار عالمي
الشيخ رائد صلاح
أمام مشهد الكارثة الإنسانية في غزة باتت الكثير من المؤسسات العالمية عاجزة أو شبه مشلولة في أحسن الأحوال، وباتت تتقن فن الرثاء لهذه الكارثة الإنسانية، أو باتت تتقن فن وصفها، أو باتت تعبر عن مشاعر التعاطف معها، أو باتت تستنكر وتشجب وتُدينُ إن ملكت الجرأة على ذلك !! ثم ماذا ؟! لا شيء سوى الحديث عن إدخال عشرات شاحنات الإغاثة من معبر رفح !!
وهكذا بات هو حال هيئة الأمم المتحدة من هذه الكارثة الإنسانية، وهكذا بات هو حال منظمة الصحة العالمية وهيئة الصليب الأحمر ومؤسسات الطفولة العالمية، وهكذا بات حال منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية !! وهذا يعني أن البشرية اليوم باتت بلا عنوان، وباتت مُكرهة على الصبر الموجع على كل ما يقع عليها من كوارث ظلم أو جور أو استعمار أو احتلال أو سطوة قوى امبريالية دون أن تجد لها عنواناً تشكو إليه وترجو منه الغوث والمدد والعون، سيما بعد أن أصبح الجميع يرثي حال هيئة الأمم المتحدة التي خرجت هي وسائر أذرعها عن الخدمة، وهكذا أصبح العالم اليوم ينتظر مُخلّصاً مما هو فيه من فقر وجوع ومرض وجهل ونزاعات طاحنة داخلية أو مع طرف خارجي، وهكذا ثبت بالدليل القطعي المُشاهد والمحسوس فشل وعود الرأسمالية، وفشل وعود الشيوعية اللتين اقتسمتا العالم ذات يوم، إلى جانب اقتسام مصير شعوب الأرض، وحاضر هذه الشعوب ومستقبلها، وراحتا تدعيان كل على حدة أنها هي المُخلّص لأمم الأرض، وهي المُنقذ للإنسانية، وهي الكفيلة بتحقيق الأمن الغذائي والسلم الأهلي وحق تقرير المصير لكل شعوب الأرض !! ولكن هيهات هيهات، لقد ثبتت سرابية هذه الوعود، وفحش الوهم الذي باعتاه لكل أهل الأرض، ومأساوية الكوارث التي أوقعتاها على الإنسان في هويته وقيمه وضميره وكرامته وانسانيته، والتي أوقعتاها على شعوب الأرض !! ولذلك فإن الكارثة الإنسانية في غزة كشفت للبشرية أن هذه البشرية اليوم تعيش في كارثة بشرية عالمية، وأصبحت حفنة من البشر تتصرف في مصيرها وتسومها سوء العذاب وتدوس على إنسانيتها باسم النظام العالمي الجديد ومرادفاته من أسماء تفوح بنتن هذه الأسماء ونتن دورها وآثارها في كل قارات الدنيا !!
باختصار ها هو جرس إنذار عالمي يرنّ اليوم بصوت عال يسمع أهل الأرض جميعاً وحتى من به صمم ولسان حاله يقول : البشرية اليوم في خطر مصيري على وجودها وإلا فعلى انسانيتها وإلا فعلى ضميرها وإلا فعلى كرامتها وإلا فعلى قيمها، وكأني بكل أذنين في رأس كل انسان باتت تُصغي إلى هذا الصوت، وبات كل واحد من البشرية يقول : هل من مُخلّص لنا ؟! من هو هذا المُخلّص ؟! أين هو هذا المُخلّص ؟! هل هو موجود أم لا يزال حُلماً ؟! هل هناك بديل عالمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أم مُلئت ظلماً وجورا ؟! هل هناك ميلاد لهذا البديل العالمي بعد الانهيار العالمي لمنظومة الرأسمالية ووعودها إلى جانب الانهيار العالمي لمنظومة الشيوعية ووعودها ؟!
وهنا ألفت الانتباه أن كل ذلك هو على صعيد عالمي شامل لكل البشرية، وأما على صعيد العالم الإسلامي، فها هو العالم الإسلامي أصبح بلا عنوان يحتضن همومه وأوجاعه ومآسيه، وهكذا بات العالم الإسلامي ممزقاً متنافراً في الوقت الذي كان يجب أن يكون فيه أمة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى، وفي الوقت الذي كان يجب أن يكون فيه كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا، وفي الوقت الذي كان يجب أن يكون فيه معتصماً بحبل الله بريئاً من التفرق والتناحر والتآكل، ولكن هيهات هيهات ها هي منظمة التعاون الإسلامي تحولت إلى بيت عزاء لفواجع العالم الإسلامي ومصائبه وويلاته، وباتت هذه المنظمة لا تُجيد إلا فن عقد المؤتمرات الطارئة، وفن ذرف الدموع الخطابية على وهن هذا العالم الإسلامي لدرجة أن أمم اليوم تتداعى عليه الآن كتداعي الأكلة على قصعتها، ولا يملك أن يدفع شرها عن نفسه، وعن أرضه وبيته ومقدساته، وهذا يعني أن الكارثة الإنسانية في غزة سلطت الضوء على كارثة إنسانية كُبرى بات يعيشُها اليوم كل العالم الإسلامي، وها هو يندب حظه، ويبكي على الملايين من قتلاه إما بيد صديق قريب أو بيد عدو غريب، ويبكي على الملايين من مشرديه في كل آفاق الدنيا، لدرجة أن البعض من هؤلاء المُشردين غيّر دينه وانتماءه الإسلامي من أجل ملجأ يأوي إليه في شرق الأرض أو غربها، ومن أجل لقمة طعام وشربة ماء وحبة دواء، في الوقت الذي انتفخت فيه بطون المتخمين من ولاة العالم الإسلامي وقرَّائهم وخطبائهم وبطانتهم بعد أن امتلأت بطونهم بأرزاق هي ليست لهم في الأصل، بل هي لفقراء المسلمين وجياعهم ومرضاهم ومشرديهم وأراملهم وأيتامهم.
وليت هؤلاء الولاة ومن سبّح باسمهم وقفوا عن حد ابتلاع أرزاق العالم الإسلامي بلا شبع، بل ها هم يلهبون ظهر العالم الإسلامي بسياط الظلم والجور والفتن وغول الجبرية والقهر والتسلط الفاجر، وها هو العالم الإسلامي ومع أنّات أنينه بات يتساءل : هل من مُخلّص للعالم الإسلامي مما هو فيه ؟! وهل من مخرج لهذه الفتن المُظلمة الرداح التي أطبقت عليه، والتي باتت كالأساود الصبّ لا تدع أحداً من هذه الأمة الإسلامية إلا لطمته لطمة ؟! وهل من نهاية لليل هذا الحكم الجبري الطويل الذي أستُبيحت فيه الدماء والأموال والحُرمات ؟! ومن لها بعد أن استحكمت حلقاتُها ؟! وكأني بكل مسلم في الأرض بات يقف على الجمر وبات ينتظر بالأشواق ظهور مُخلّص يُنقذه مما هو فيه، وظهور بديل حق لهذا الحُكم الجبري المُفلس كيما يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجورا !!
ثم إذا كان هكذا الحال على الصعيد العالمي وعلى الصعيد الإسلامي، فهو كذلك على الصعيد العربي، فها هو العالم العربي بات عالماً منكوباً، يصدُق على كل دولة فيه وعلى كل شعب فيه قول الخنساء : (ولولا كثرة الباكين حولي على أخوانهم لقتلتُ نفسي)، وها هو اليوم عالم عربي مُفكك ومُخترق حتى النُخاع، وها هو اليوم بلا عنوان يجمع كلمته ويُسوي صفه ويستُر عورته ويحمي أوطانه، وها هي الجامعة العربية التي كان من المرجو منها أن تكون الراعي الأمين لهذا العالم العربي الغلبان ها هو حالها أصبح موافقاً لقول الحكيم فينا : تسمعُ لها جعجعة ولا ترى طحناً، وأصبحت لا تقدر على إدخال كيس طحين أو قنينة حليب أو كأس ماء أو حبة دواء أو علبة وقود إلى غزة، إلا الفُتات من الفُتات بعد إذن السيد الإمبريالي وموافقته الملغومة !! وهكذا بات العالم العربي في تيه غارق في الظُلمات، وبات الكل فيه يسأل : هل من مُخلّص لنا مما نحّن فيه، بعد أن أصابتنا كارثة عروبية إلى جانب الكارثة الإنسانية في غزة !! ثم بناءً على كل ما ذكرت أقول إن الجواب على هذا السؤال : هل من مُخلّص الذي بات يسأله أهل الأرض والعالم الإسلامي والعالم العربي، إن الجواب هو جواب واحد، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجورا)) .