في قراءة تحليلية للحرب.. د. مهند مصطفى: إسرائيل بعد السابع من أكتوبر لن تكون كما عرفناها قبل هذا التاريخ
• في أكتوبر 2023 كان الإخفاق شاملا، لأشخاص، ومؤسسات، وتصورات، دخلت فيها الدولة في حالة عدم اتزان، هذا لم يكن في أكتوبر 1973
• نتنياهو انتهى سياسيا، ومهما حاول انقاذ نفسه فهذه المرة لن ينجح. كما أن اليمين سيضعف في إسرائيل
• الولايات المتحدة هي التي تدير الرؤية السياسية والاستراتيجية للحرب، إسرائيل تفكر حاليا بالأمن فقط
• يعيش العرب الفلسطينيون في البلاد حالة مركبة من 3 مشاعر: الحذر والخوف والادراك في نفس الوقت
• هنالك رقابة شرطية ورقابة مجتمعية شعبوية على العرب، والثانية أصعب لأنها قد تهدد معاشهم، وحتى أمنهم الجسدي، كما حدث في كلية نتانيا
طه اغبارية
في خضم الحرب على قطاع غزة، التقت صحيفة “المدينة” الدكتور مهند مصطفى المدير العام لمركز مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية في حيفا، للوقوف على تداعيات الحرب المختلفة.
المدينة: هل إسرائيل بعد السابع من أكتوبر سوف تكون هي نفسها قبل هذا التاريخ؟
د. مهند: بالطبع لا، إسرائيل بعد السابع من أكتوبر لن تكون تلك التي عرفناها قبل هذا التاريخ. ما حدث كان صدمة كبيرة لإسرائيل دولة ومجتمعا. ومن الخطأ تشبيه هذه الصدمة أو الإخفاق بحرب أكتوبر 1973. في عام 1973 كان الإخفاق نابعا من أخطاء شخصية وليس بالتقديرات الاستراتيجية، كانت تعلم إسرائيل أن مصر تستعد لشن حرب عليها، وكان الجيشان بكامل تجهيزاتهما على الحدود، يراقب أحدهما الآخر، خطأـ اشخاص أدى إلى الإخفاق عام 1973. في أكتوبر 2023 كان الإخفاق شاملا، لأشخاص، ومؤسسات، وتصورات، دخلت فيها الدولة في حالة عدم اتزان، هذا لم يكن عام 1973، والتي استطاعت فيها إسرائيل استعادة توازنها بعد أيام من الهجوم المصري الكاسح على قناة السويس. ونقطة أخرى مهمة، لم تدخل الجيوش المصرية الحدود السيادية لإسرائيل عام 1973، في حين ما حدث أن حركة حماس عمليا احتلت جنوب البلاد.
المدينة: ما هي معالم هذه الصدمة؟
د. مهند: الصدمة كانت كبيرة وحقيقية. هذه المرة الأولى منذ عام 1948 التي يشعر فيها الإسرائيليون بالخطر الحقيقي، وليس صدفة أن يظهر الخطاب القائل إن إسرائيل في حرب استقلال ثانية، لأنَّ المعارك دارت داخل المناطق السيادية لإسرائيل وبين التجمعات اليهودية وعلى الطرق المؤدية لها، وهو شبيه بالمعارك عام 1948، ولم تكن منذ عام 1948 معارك بهذا النمط. والصدمة كانت عسكرية ليس فقط بسبب الإخفاق الأمني والعسكري، بل بسبب أن ما حدث كان نقيضا للمنظومة العسكرية الإسرائيلية التي اعتمدت على نقل القتال إلى ساحة العدو، هذه المرة انتقل القتال إلى ساحتها الداخلية. وصدمة اجتماعية كبيرة سترافقنا أكثر من الصدمة العسكرية والأمنية، وتتمثل الصدمة الاجتماعية في أن إسرائيل لم توفر الأمن والاستقرار لمواطنيها، وأنها مركز آمن للشعب اليهودي، لذلك يتم وصف ما حدث بأنه استمرار للهولوكوست اليهودي. والأهم هو صدمة في أنَّ المسألة الفلسطينية لا تزال تطارد الإسرائيليين وأن وهم اليمين أنه استطاع حسم الصراع مع الفصائل الفلسطينية لم يكن صحيحا. وهذا الأمر سيكون كارثة اليمين سياسيا في إسرائيل في المرحلة القادمة.
المدينة: كيف ذلك، هل انتهى عهد نتنياهو مثلا؟
د. مهند: بكل تأكيد، نتنياهو انتهى سياسيا، ومهما حاول انقاذ نفسه فهذه المرة لن ينجح. كما أن اليمين سيضعف في إسرائيل. صحيح أننا نشهد الآن خطابا يمينيا متطرفا في الشارع الإسرائيلي، بما في ذلك ضد العرب في البلاد. ولكن لن يتم التعبير عنه في التصويت للأحزاب اليمينية، فهذه الأحزاب مسؤولة عن أكبر إخفاق في تاريخ دولة إسرائيل، وانكشف سياسيو اليمين بأنهم ليسوا رجال دولة، وهذه النقطة المهمة، فرجال الدولة هم من سيقودون إسرائيل في المرحلة القادمة، وهم في الحقيقة الذين تظاهروا ضد الحكومة بسبب التغييرات الدستورية، والذين يقودون الحرب الآن في قطاع غزة، والذين تعرضوا لهجمات السابع من أكتوبر مباشرة، والذين يديرون مؤسسات المجتمع المدني التي حلَّت مكان الدولة الضعيفة في كل مجال تقريبا، والسلطة القضائية التي حاربها اليمين تقدم غطاء قانونيا للهجمات وقصف قطاع غزة، والإعلام الذي اتهمه نتنياهو بأنه متآمر عليه يشترك في المجهود الحربي تاركا المعايير المهنية في التغطية الإعلامية جانبا، ويائير غولان، الشخص والرمز، الذي اتُهم بأنه أبيض وصاحب امتيازات ونخبوي، كان يحارب في الجنوب طوعا ووزراء الحكومة مختبئون.
المدينة: لنعود للحرب، هل تستطيع إسرائيل تحقيق أهدافها التي أعلنتها، ومنها إسقاط حكم حماس؟
د. مهند: كل السيناريوهات واردة في هذا الصدد، إسرائيل مصممة على ذلك، وقد رفعت سقف الأهداف عاليا، ولكن كما في كل حرب، هنالك عوامل لا يمكن السيطرة عليها قد تعيق تنفيذ أهداف الحرب، أو قد تُفشل مسار تحقيقها، وهذه عوامل قد لا يكون لإسرائيل بالضرورة سيطرة عليها. ويمكن الإشارة إلى مجموعة من العوامل، منها، خفوت الضوء الأخضر الأمريكي، فهو العامل المركزي والحاسم في التصميم الإسرائيلي على تنفيذ أهداف الحرب، وبدون الولايات المتحدة الأمريكية ستكون إسرائيل في مآزق كبير، دوليا وعسكريا. فالولايات المتحدة هي التي تمنع توسع جبهات الحرب، وتقدم مظلة أمان لإسرائيل في مجلس الأمن، وتمدها بالسلاح، والمساعدات الاقتصادية. قد ينبع الخفوت الأمريكي من ضغط داخلي في الولايات المتحدة، واقتراب الانتخابات الرئاسية، أو الخوف من التورط في حرب إقليمية إذا توسعت المواجهة ولم تستطع الولايات المتحدة منعها، فالولايات المتحدة تريد ردع أعداء إسرائيل، ولكنها لا تريد خوض حرب في الشرق الأوسط بعد صدمة العراق وأفغانستان.
أمَّا العامل الثاني، فهو العامل الداخلي الإسرائيلي، والمتعلق أساسا بملف الأسرى والمحتجزين، وزيادة الضغط على الحكومة لإغلاق هذا الملف، والذي قد يكون على حساب تحقيق أهداف الحرب العسكرية، أو بداية تصدع الإجماع الإسرائيلي حول استمرار الحرب بسبب الخسائر في صفوف الجنود، وهذا ما كان مثلا في حرب لبنان عام 1982، فقد دخلت إسرائيل موحدة في الحرب، والتي أطلق عليها ارييل شارون وزير الدفاع حينذاك، بأنها الحرب الأكثر صدقية في تاريخ الحروب الإسرائيلية، وخرجت منقسمة على نفسها.
المدينة: هذا بالنسبة للأهداف العسكرية، ماذا بالنسبة للأهداف السياسية من الحرب، ماذا تريد إسرائيل؟
د. مهند: اعتقد أن إسرائيل لا تملك تصورا سياسيا واضحا لما بعد الحرب بالنسبة لقطاع غزة، أولا لأنها مشغولة بالأهداف العسكرية، وثانيا لأن أي تصور سياسي متعلق بقدرتها على تحقيق أهدافها العسكرية، واعتقد أن الولايات المتحدة هي التي تدير الرؤية السياسية والاستراتيجية للحرب، إسرائيل تفكر حاليا بالأمن فقط، مقاربتها أمنية وعسكرية ضيقة، الولايات المتحدة تريد مقاربة سياسية واستراتيجية للحرب، وتحاول التجسير بين الأهداف العسكرية الإسرائيلية والأهداف السياسية والمصالح الأمريكية الأوسع، فلا معنى لأي انجاز عسكري بدون رؤية سياسية، هذه من أساسيات العلوم السياسية، الولايات المتحدة تدرك ذلك. إسرائيل تريد الانتقام فقط بدون أفق سياسي، لذلك حذّر بايدن إسرائيل من ذلك بشكل مباشر، وفي تصوري هذا هو الدعم الأمريكي الحقيقي لإسرائيل الذي يفوق الدعم العسكري. وهو وضع تصور سياسي لما بعد الحرب على غزة. واعتقد أن الولايات المتحدة تفضل عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، وإسرائيل تريد نقل حالة الضفة الغربية إلى قطاع غزة، وجود سلطة فلسطينية، مع إمكانية الدخول لمناطقها وتنفيذ عمليات أمنية من اعتقالات، وإحباط تنظيمات مسلحة وغيرها.
المدينة: دعنا ننتقل إلى واقع المجتمع العربي في الداخل، كيف ترى واقعه في ظل الحرب؟
د. مهند: يعيش العرب الفلسطينيون في البلاد حالة مركبة من 3 مشاعر: الحذر والخوف والادراك في نفس الوقت، لا يمكن إنكار أنَّ هنالك حالة خوف وهي طبيعية والنابعة من التحريض الكبير عليهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ومراقبة حساباتهم الشخصية على الشبكات، وهنالك رقابة شرطية ورقابة مجتمعية شعبوية، والثانية أصعب لأنها قد تهدد معاشهم، وحتى أمنهم الجسدي، كما حدث في كلية نتانيا. في نفس الوقت، العرب واعون ومدركون للواقع، ويعرفون المجتمع اليهودي جيدا، وقادرون على بناء حدود لعملهم وتصريحاتهم، وهو ليس نفاقا كما يظن الخطاب الشعبوي الإسرائيلي، بل هو إدراك لطبيعة المرحلة المعقدة، وضبط النفس بالتعبير الصارخ عن التضامن مع المدنيين في غزة، من خلال المظاهرات مثلا، فيه خوف من جهة ووعي وإدراك لطبيعة المرحلة من جهة أخرى. وينبع الإدراك لا الخوف من وعي العرب أن هنالك من يترصد لهم من وزراء في الحكومة الذي صعدوا سياسيا بواسطة التحريض عليهم، وفي تصوري يتمنون أن يكون ما كان في أيار 2021، ويحاولون إنقاذ أنفسهم سياسيا وشعبيا من خلال فتح مواجهة مباشرة مع المجتمع العربي، يعيدون من خلالها ترميم فشلهم.
وهنا لا بد من قول مسألة هامة، لا يجب إنكارها، أنَّ ما حدث في السابع من أكتوبر في غلاف غزة، أصاب شريحة سكانية يهودية كانت بعلاقات شخصية مع أفراد كُثر ومؤسسات كثيرة في المجتمع العربي، كما أصاب أهل لنا من عرب النقب، وقد تألم العرب لمصابهم انسانيا، ويريد العرب أن يعبروا أيضا عن ألمهم للكارثة الإنسانية في قطاع غزة، في حين أنَّ الرقابة الشرطية والشعبوية الإسرائيلية تريد من العرب أن يغيّبوا ألمهم وحزنهم عن معاناة أهل قطاع غزة، وهذا ليس منع لحرية التعبير، بل منع لحرية المشاعر وهي أصعب.