هل خرجت الأمم المتحدة عن الخدمة؟!
الشيخ رائد صلاح
الكارثة الإنسانية في غزة باتت هي الفاضحة لهيئة الأمم المتحدة، فها هي هذه الهيئة وعلى مرأى ومسمع من العالم أصبحت عاجزة عن إدخال الغذاء والماء والدواء وعلف الحيوانات والوقود إلى غزة، وتفاقم عجزها لدرجة أنها لم تعد قادرة على إيصال الكهرباء إلى غزة، علما أنها تعلم، وعلما أنّ العالم يعلم، أن غزة بلا كهرباء يعني شلّ عمل المستشفيات فيها، وشلّ عمل أجهزتها الطبية التي لا يمكن لها أن تعمل بلا كهرباء، فكيف لجهاز التنفس الاصطناعي وكيف لجهاز تزويد المريض بدم جديد وهو ما يُعرف “بالدياليزا”، وكيف لجهاز فحص منسوب السكري، وكيف لسائر الأجهزة الدقيقة والكثيرة التي لا يمكن لأي مستشفى في العالم أن يستغني عنها، وكيف لها أن تعمل دون كهرباء، وهذا يعني أن الموت قد يطال عشرات الآلاف في غزة ما بين مريض ورضيع وطفل وامرأة وشيخ وعجوز وحامل، ومع كل ذلك ها هي هيئة الأمم المتحدة تنظر من برجها العاجي في نيويورك إلى الكارثة الإنسانية في غزة وقد أضحت هذه الهيئة بلا حول ولا قوة، علما أنها في الأصل هي المرجعية العالمية الأولى التي يجب أن ترعى كل دول الأرض وكل شعوبها وكل كوارثها الإنسانية، ومشهد العجز هذا الذي باتت تتمتع به هيئة الأمم المتحدة ليس جديدا عليها فهي التي كانت عاجزة في كوارث الشعوب في أفغانستان والبوسنة والهرسك والشيشان وكوسوفا والعراق وسوريا ومصر ولبنان واليمن، وها هي تتحلى بالعجز بامتياز في الصراع الروسي-الأوكراني وفي مآسي كثير من الشعوب الأفريقية وشعوب أمريكا الجنوبية، وكم صدق قول الصحفي الأفريقي عندما قال عن هيئة الأمم المتحدة: (إذا تنازعت دولة صغرى مع دولة صغرى تدخلت الأمم المتحدة، وإذا تنازعت دولة كبرى مع دولة صغرى ضاعت الدولة الصغرى، وإذا تنازعت دولة كبرى مع دولة كبرى ضاعت الأمم المتحدة)، ولعل البعض يقول يالخسارة ميزانيات الأموال الضخمة التي لا تزال تنفق اليوم على هيئة الأمم المتحدة وعلى مبانيها العملاقة وعلى عشرات الآلاف من موظفيها وعلى الآلاف من إرسالياتها في كل العالم، لا بل إن البعض بات يتندر على هيئة الأمم المتحدة وبات يقول: لقد تحوّلت إلى قفاز حرير ناعم للإمبريالية العالمية حيث باتت الإمبريالية العالمية تفتك في الشعوب الضعيفة وتنهب خيراتها وتدوس على إنسانيتها وهذه الإمبريالية المتوحشة تلبس هذا القفاز الحريري الناعم الذي اسمه هيئة الأمم المتحدة، والذي قد يُسمى الشرعية الدولية، وقد يُسمى تارة أخرى الميثاق العام لهيئة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن العام فيها، وقرارات الجمعية العمومية فيها، وكم أصبح سهلا على الإمبريالية المتوحشة وكلمح البصر أن تنقض كل قرار من هذه القرارات إن لم يرق لها، باسم حق الفيتو الذي لا تزال تملكه حتى الآن :أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، ولا يجوز لغيرها من دول العالم أن تملك هذا الحق لماذا؟! لا أدري!!
وهكذا انتشر الظلم والجور في الأرض مع وجود هيئة الأمم المتحدة!! وهكذا استفحلت قوى الاحتلال والاستعمار في غيّها مع وجود هيئة الأمم المتحدة، وهكذا زاد عدد اللاجئين والمشردين وأصبح بمئات الملايين مع وجود هيئة الأمم المتحدة!! وهكذا انتشر الفقر والمرض والجهل والجوع على صعيد عالمي مع وجود هيئة الأمم المتحدة!! وهكذا اختل التوازن المناخي وتفاقم الانحباس الحراري وأصبحت الكرة الأرضية مهددة بالكوارث الطبيعية التي قد تبيد كل مظاهر المدنية المعاصرة مع وجود هيئة الأمم المتحدة!! ولذلك ولكل ذلك فلا غرابة أن بات البعض يسخر من هيئة الأمم المتحدة!! وبات يقول: لقد تحولت الى بيت للعجزة!! وبات البعض يقول: لقد تحولت إلى بيت عزاء للكوارث الإنسانية!! وبات البعض يقول: لقد تحولت الى أفيون للشعوب!!
وبات البعض يقول: لقد أصبحت منبر ثرثرة كاذبة!! وها هي جدران هيئة الأمم المتحدة تهتز والبعض يتحدث فيها عن السلام ولا سلام!! والبعض يتحدث فيها عن العدل والعدالة ولا عدل ولا عدالة!! والبعض يتحدث فيها عن حقوق الشعوب وحق تقرير مصيرها، ولا حقوق للشعوب، ولا حق لها في تقرير مصيرها!! مما دفع البعض أن يصرخ من شدة الألم والحرقة والحسرة، وأن يصرّح قائلا: لقد خرجت هيئة الأمم المتحدة عن الخدمة ولقد انتهى تاريخ استعمالها، لأنها ولدت أصلا بلا مقومات للاستعمال ويوم أن وُلدت فقد وُلدت وفق مقاس الإمبريالية العالمية بكل ألوانها وأطيافها ولغاتها وأعلامها وأجناسها!! فهي هذه الإمبريالية العالمية التي أشرفت على ميلاد هيئة الأمم المتحدة، واشرفت على تقنين دورها، وعلى رسم مساحة تحركها، بما يحافظ على الإمبريالية العالمية، وعلى استمرار وجودها، وعلى استمرار سطوتها، وعلى استدامة مصالحها المتوحشة!! وهكذا أصبحت البشرية في الأرض اليوم بلا عدل وقسط وبلا عنوان عالمي يحفظ لها عدلها وقسطها. وهكذا مُلئت الأرض اليوم وملئت شعوب الأرض اليوم ظلما وجورا وأصبح راعي الخراف والأغنام هي الذئاب!! وأصبح حامي خيرات الشعوب هو المحتل والمستعمر، فكان أن صُدّق الكاذب، وكُذّب الصادق، وأُمّنَ الخائن، وخُوّنَ الأمين، واختلت الموازين، وانقلبت القيم، وغرق أهل الأرض في ضلال مبين!!
وهكذا أصبحت هذه البشرية المسكينة والتعيسة والشقية بأمس الحاجة إلى قيادة صالحة وراشدة تنقذها من مستنقع الويلات الذي غرقت فيه، تملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا، وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش بيننا الآن، عندما قال لنا في ختام حديث نبوي طويل وصحيح: (… ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا)، وأصدقكم القول أنني ما فهمت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (.. بعد أن ملئت ظلما وجورا) إلا في هذه الأيام، حيث بات واضحا أن معنى هذا القول (بعد أن ملئت الأرض ظلما وجورا) أي بعد أن ملئت الأرض ظلما وجورا مع وجود هيئة الأمم المتحدة!! أو بمعنى آخر: بعد أن مُلئت الأرض ظلما وجورا مع وجود عنوان عالمي ادّعى لنفسه أنه سيحفظ القسط والعدل في مسيرة البشرية على صعيد عالمي!! ولكن هيهات هيهات!! وادّعى لنفسه أنه سينقذ مسيرة البشرية من الظلم والجور على صعيد عالمي!! ولكن هيهات هيهات!!
ثمَّ ماذا؟! إنَّ هذا المقطع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (.. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا) ينبئ أهل الأرض على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم أن الأرض مقبلة على ميلاد بديل عالمي على منهاج النبوة يملأ الأرض قسطا وعدلا، بعد أن أدى عجز هيئة الأمم المتحدة إلى أن تمتلئ الأرض ظلما وجورا.