مستقبل الأمة بين لطمة حمزة ودموع فاطمة
الشيخ كمال خطيب
كثيرة هي الأمثلة من التاريخ تسرد لنا وتعرض أمامنا مواقف ولحظات فارقة كانت سببًا في إحداث هزة داخلية في نفوس أشخاص عاشوا حياتهم حتى تلك اللحظة بمسار معين، ومن ثم حدث ذلك الحدث الفارق فأدى إلى انعطافة محورية في مسار حياتهم ومعيشتهم، لا بل إن ذلك الموقف كان سببًا في حجز هؤلاء موقفًا في خانة وقائمة الرجال العظماء ليس في تاريخ الأمة فقط وإنما في تاريخ الإنسانية كلها.
لطمة حمزة
ها هي كتب السيرة والتاريخ تحدثنا عن لحظة فارقة من هذه اللحظات في حياة حمزة بن عبد المطلب عم الرسول ﷺ، وهو فارس قريش الأول وأقواها بأسًا وشكيمة.
وكان حمزة ما يزال كافرًا لما رجع ذات يوم من الصيد في البراري، لكنه كان اليوم الذي فيه كان أبو جهل قد مرّ على رسول الله ﷺ وكان يجلس وحده عند الصفا، فتطاول أبو جهل على رسول الله ﷺ وسبّه سبًا مقذعًا. وليس هذا وحسب، بل إنه حمل حجرًا وقذفه فأصاب به رأس رسول الله ﷺ فأسال الدم من رأسه الشريف، ثم انصرف أبو جهل إلى نادي ومجلس قريش عند الكعبة مفاخرًا مزهوًا بما فعل مع رسول الله ﷺ.
وكان لعبد الله بن جدعان أمة قد شاهدت ما فعل أبو جهل برسول الله ﷺ، ومع أنها كانت ما تزال كافرة فما أن رأت حمزة عائدًا من رحلة الصيد حتى اعترضت طريقه تقول له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك آنفًا من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالسًا فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ومحمد لم يكلمه.
مع أن حمزة ما يزال كافرًا لكن مشاعر ونخوة حمزة تحركت وغلى الدم في عروقه، كيف لابن أخيه أن يُضرب وهو الذي ما يزال يتيمًا في عين حمزة، ثم أنه من بني هاشم ومن ضربه هو من بني مخزوم. فانطلق من فوره ليدخل على أبي جهل في مجلسه بين عشيرته في جوار الكعبة، وبدون كلام ولا مقدمات هوى بالقوس على رأس أبي جهل في ضربة شديدة أسال الدم من رأسه. لقد كانت ضربة بضربة ودمًا بدم، لكن ضربة أبي جهل لرسول الله كانت دون أن يراه أحد إلا تلك الجارية رأته خلسة، بينما كانت ضربة حمزة لأبي جهل على الملأ بين أهله وعزوته.
وليس ذلك وحسب، بل إن حمزة وقف متحديًا يقول لأبي جهل: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول فردّ عليّ ذلك إن استطعت!!!
كانت كلمات حمزة قد خرجت حمية ونخوة وانتصارًا لمظلوم، لكنه لم يكن في تلك اللحظة مؤمنًا حقًا بالذي جاء به محمد ﷺ، لكنها كانت تلك اللحظة الفارقة والتي جعلته يقف هنيهة ويترك ما شغله حتى ذلك الحين من مطاردة الوحوش في الصحاري واتباع أغراض الحياة الدنيا من متاع أو شهرة أو ملذات، لحظة من حمية قبلية كان لها أثر التفكر والوقوف على مفترق طرق لا بد أن يقفه كل إنسان على الأقل مرة واحدة في حياته.
ذهب بعدها حمزة إلى رسول الله ﷺ وحدّثه بما كان وقال: “حدثني يا ابن أخي فقد اشتهيت أن تحدثني”. وقف حمزة في تلك اللحظة مخلصًا في استعداده للسماع وللفهم وللهداية، وهنا حدّثه النبي ﷺ ودعاه وذكره ووعظه بما كان حدّثه به من قبل كثيرًا لكن قلب حمزة الآن ليس القلب الذي كان قبلها. إنها لحظات الهداية والصفاء، فأسلم حمزة بيقين صادق وقال: “أشهد أنك الصادق فأظهر يا ابن اخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول”.
ليس أن حمزة منذ تلك اللحظة قد أصبح أسد الله، وإنما أصبح بعدها سيد الشهداء، بل إن الإسلام نفسه كان على حال قبل إسلام حمزة وأصبح على حال آخر بعد إسلامه رضي الله عنه.
إنه موقف عز وقفه حمزة وإذا به يرسم ملامح مرحلة ليس لشخصه وإنما لأمته، بل للدنيا.
دموع فاطمة
لم تمض سوى ثلاثة أيام على إسلام حمزة وقريش لم تصح بعد من صدمتها بعد لطمة العز لطمها حمزة لأبي جهل، وإذا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخل على أبي جهل في بيته، فقال له أبو جهل: مرحبًا بابن أخي، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني أسلمت وآمنت بمحمد ﷺ وصدّقت بما جاء به. قال: فضرب أبو جهل الباب في وجهه وقال: “قبّحك الله وقُبٍح ما جئت به”.
لكن كيف كانت بداية قصة إسلام عمر رضي الله عنه، إنها لم تكن بعد لطمة عز لأبي جهل، وإنما كانت بعد لطمة لوجه أخته ودموع تسيل من عينيّ فاطمة بنت الخطاب زوجة سعيد بن زيد، وكانت قد أسلمت وزوجها سرًا.
كان اليوم الذي خرج فيه عمر متوشحًا سيفه إلى بيت الأرقم حيث كان رسول الله ﷺ وبعض أصحابه، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدًا الذي فرّق أمر قريش وعاب دينها فأقتله. قال له نعيم: أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ قال: أي أهلي؟ قال: أختك وابن عمك سعيد بن زيد فقد والله أسلما.
دخل عمر البيت مزمجرًا، وكان في البيت مع سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب خبّاب بن الأرتّ يُقرئهما القرآن. أما خبّاب فتوارى في جانب البيت وأما فاطمة فقد أخفت صحيفة القرآن في حجرها، فضربها عمر على وجهها بعد أن ضرب زوجها فاختلط الدم النازف من رأسها بالدموع فلمَّا رأت الدم بكت وقالت: “يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا كُنْتَ فَاعِلًا فَافْعَلْ، فَقَدْ أَسْلَمْتُ”.
لمّا رأى عمر هذه الشجاعة من أخته وقد اختلطت الدموع بالدماء في وجهها، عندها فهم أنه أمام شيء لم يعهده من قبل، وقف ابن الخطاب وقفة إجلال لهذه اللحظة من الزمان هزته هيبة الموقف، دم أخته مختلط بأنفاسها، وروحها تقدمها بلا تردد في سبيل دينها، حينها فهم عمر أنه أمام لحظة فارقة من الزمان، فهدأ وسكن ما فيه من غضب الجاهلية والغرائز الدونية وبات عقله وقلبه في لحظة من الزمان جاهزًا لنور الحقيقة أن يدخل إليه.
قال عمر لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون بها. فقالت: إنا نخشاك عليها. فأقسم أن يعيدها، ثم قالت له: إنك نجس على شركك ولا يمسّ هذه الصحيفة إلا المطهرون. فقام واغتسل وأعطته الصحيفة فإذا فيها:
{طه*مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ*إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ* تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى*ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوى*لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَى} آية 1-6 سورة طه.
في لحظة الصفاء تلك، في لحظة التجرد من أهواء النفس وحجب الأهواء والنزعات الدنيوية، دخلت هذه الآيات قلبه وعقله وملأ نورها كيانه، في لحظة واحدة فارقة من الزمان فتحت عينيه على حقيقة الإيمان وسقطت من قلبه أحمال الكفر والشرك والطغيان فقال من فوره بلا تردد ولا تلعثم وبدون أن يطلب مهلة للتفكير ووزن للأمور، قال من فوره: “ما أحسن هذا الكلام وأكرمه”…. ومضى عمر إلى دار الأرقم وأسلم هناك، وللقصة تفاصيل في كتب السيرة.
اغتنام الفرصة والتقاط اللحظة
إذًا هي دعوة لكل إنسان ولكل عاقل وراغب في أن يدخل نور الحق قلبه أن يغتم الفرصة في لحظات فارقة من حياتنا، قد تكون هذه اللحظات في حدث شخصي أو عائلي أو غيره، في كل ذلك على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تفكر ومراجعة وأن يفتح عقله وقلبه لقبول الهداية ونورها لتدخل في كيانه وتغير ما في قلبه فيكون ذلك كله سببًا لقدر مشرق ومشرف له في دينه وفي دنياه.
نعم إن من الناس من يحرّكهم موقف عزّ ونخوة كموقف حمزة، فيُخرج مكنون صدورهم من الخير. ومن الناس من يحرّكهم موقف إنساني يغلب عليه الدموع والألم فيُخرج ما في صدورهم من بقايا إنسانية كموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وإن من الناس من انعدمت فيهم معاني النخوة والعزة ومعاني الإنسانية والرحمة فلا يحركهم شيء، وصدق فيهم قول الله تعالى:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} آية 179 سورة الأعراف.
ويقول الله عز وجل في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ} آية 46 سورة الحج.
ويقول تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} آية 44 سورة الفرقان.
وصدق فيهم قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي
فإذا كان موقف عزّ وأنفة ورجولة وقفه حمزة قد غير مجرى حياته، وإذا كان موقف دموع وشفقة قد وقفه عمر قد غير مجرى حياته، فإن أحداثًا تقع في حياتنا تكون إن تدبرناها، مواقف عزّ وشموخ يمكن أن تغيّر مجرى تاريخنا كله، ولعلّها تكون مواقف حزن وألم ومع ذلك فإنها يمكن أن تغيّر مجرى حياتنا إلى الأفضل، حتى لو كرهناها وما أردناها.
وإذا كان من الناس من تدركهم هذه اللحظة فيلتقطونها ويغيّرون بسببها مجرى ومسار حياتهم فيُنسى بذلك تاريخهم الماضي الأسود ومواقفهم المخزية كلّها ولا يُذكر لهم إلا ما كان بعد ذلك التغيير، فمن يذكر حمزة بشارب الخمر وصيّاد الأسود، ولكنه لا يُذكر إلا بأسد الله ورسوله صياد الفرسان. ومن يذكر عمر بأنه الجبار كما كان في الجاهلية، ولكنه أصبح لا يُعرف إلا بالفاروق رضي الله عنه.
فإذا كان هناك من يلتقطون اللحظة ويغتنمون الفرصة، فإن هناك من عميت بصيرتهم وتبلدت جلودهم وغلب عليهم ما رضعوه وفُطموا عليه، فلا يؤثر فيهم موقف أو حدث مهيب ولا يبكون لما يُبكي ولا يفرحون لما يُفرح اللهم إلا أن تكون تلك دموع التماسيح أو ابتسامة الوحش، والفارق كبير بين من يبكي بحق ومن يتباكى، والفارق كبير بين من يبتسم لك ومن يظهر لك من أسنانه لينقض عليك وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا اشتبكت دموع في خدود عرفت من بكى ممن تباكى
ويقول المتنبي في ذات المعنى:
أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ
وَما اِنتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظِرِهِ إِذا اِستَوَت عِندَهُ الأَنوارُ وَالظُلَمُ
إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ
سيطلع الفجر وتغرد البلابل
فإذا كانت لطمة حمزة على وجه أبي جهل، وإذا كانت لطمة عمر على وجه أخته فاطمة والدموع سالت على خديها قد رسمت معالم ومستقبل الإسلام حيث كان هذان الحدثان سبب إسلامهما رضي الله عنهما، وكان سببًا في انطلاقة جديدة ولدعوة الإسلام، فإن الأحداث الفارقة في كل وقت وزمان ستفرز حتمًا من يفتح قلبه وعقله ليقف مع نفسه وقفة تفكر وتدبر وتغيير لما فيه خيري الدنيا والآخرة، وفي مقابل ذلك ستجد من هم على شاكلة أخرى لا يقفون ولا يسمعون ولا يعقلون، بل هم كالأنعام أو أضل سبيلًا.
سيطلع الفجر وستشرق الشمس وستغرد البلابل وتزقزق العصافير.
لا عزاء للمحبطين واليائسين والمتشائمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.