الكارثة الإنسانية في غزة تشكو إلى الله تعالى
الشيخ رائد صلاح
يستوقفني ونحن ننظر إلى الكارثة الإنسانية في غزة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني (أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه)، أم إلى عدو ملكته امري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك). في أي ظرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء الذي يهز المشاعر ويفجر العواطف؟!
لقد قاله في ظرف كانت فيه مكة قد آذته وقد آذت كل الصحابة والصحابيات رغم قلة عددهم، وفي ظرف حاصرت فيه مكة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعت الناس فيه من الدخول في الإسلام، لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقن أنه لا بد من البحث عن بديل عن مكة لأن سوء الظرف كان يقول إنَّ عدد المسلمين قد توقف رغم قلته، وما عاد يزيد، لأنه ما عاد هناك أحد يجرؤ على دخول الإسلام من أهل مكة!! وفي أي حال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء؟ في حال طمع فيه أن تكون الطائف بديلا عن مكة، وأن يجد فيها من يستجيبون لدعوته وأن يدخلوا الإسلام، إلا أنه ما أن دخل إلى الطائف حتى سلط أهلها سفهاءهم عليه، وراحوا يرجمونه بالحجارة حتى سالت دماؤه من رأسه إلى أخمص قدميه، وكثرت فيه الجروح، وانتشرت فيه الأوجاع، وتمزقت ثيابه، وكان مطاردا مهددا لو حاول أن يدخل إلى مكة، في ذاك الظرف والحال رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء إلى الله تعالى.
ولو تدبرنا هذا الدعاء المفعم باليقين بالله تعالى والتوكل عليه واللجوء إليه والاستعانة به، نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصف سوء الحال وشدة الكرب الذي كان فيه مما دفعه أن يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس)، وما أشبه هذا الوصف بالكارثة الإنسانية في غزة، وإن مشاهد هذه الكارثة الإنسانية تحكي أن غزة تتعرض لقصف مساجدها وكنائسها ومستشفياتها ومخابزها وأسواقها، وإنَّ مشاهد هذه الكارثة الإنسانية تحكي أنها باتت تتعرض لقصف عماراتها على من فيها من شيوخ وعجائز ورجال ونساء وأطفال ورضع، وإن مشاهد هذه الكارثة الإنسانية تحكي أن الطعام والماء والدواء بات ينفد في غزة، وباتت بلا كهرباء، والشتاء على الأبواب وهناك المرضى والجرحى بعشرات الآلاف فيما تبقى من مستشفياتها لأن بعض مستشفياتها أصبحت خارج الخدمة، وإن ما يقدم لها من مساعدات إنسانية لا يعدو قطرة في بحر. فيا لهول هذه الكارثة الإنسانية في غزة وقد بلغت القلوب الحناجر؟!
نعود إلى مشهد دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لنجد أنه بعد أن وصف سوء الحال الذي كان فيه رفع شكواه إلى الله تعالى قائلا: (يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي)، وهذا يعني أن سوء الحال الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زاده إلا تقربا إلى الله تعالى وتوجها إليه، وقرعا لبابه، فهو أرحم الراحمين، وهو رب المستضعفين.
وفي المقابل ها هي الكارثة الإنسانية في غزة تدفعها وهي ترى أهل الأرض ينظرون إليها ها هي ترفع شكواها إلى الله تعالى على لسان المشردين والمشردات فيها، وعلى لسان الجرحى والجريحات فيها، وعلى لسان الجائعين والجائعات فيها، وعلى لسان الظامئين والظامئات فيها، نعم ها هي ترفع شكواها وتقول: (يا ارحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي)، وكأني بها تقول: يا الله تعالى يا من رحمتك وسعت كل شيء ارحمني!! يا الله تعالى يا من رحمتك سبقت غضبك ارحمني!! يا الله تعالى يا من رحمتك لا تنفد ولا ترتفع عني، ولا تُحجب ولا تغيب ولا تُحاصر ارحمني!! ارحم أنين مرضاي، إرحم صرخات أطفالي الجياع، إرحم رُضّعي الذين باتوا يفتقرون إلى الحليب!! وكأني بها تقول رافعة شكواها إلى الله تعالى: (أنت رب المستضعفين، وأنت ربي)، ولأنك (رب المستضعفين) فأنا مستضعفة يا الله، ولأنك (أنت ربي) فارحمني لأنني في كارثة إنسانية،!! إرحمني فها هي ارتفعت الدعاوي لإبادة شعبي!! ومن أنا يا ربي بلا شعبي؟! ومن أنا يا ربي بلا مساجدي وكنائسي وعماراتي ومستشفياتي؟! وما قيمتي يا ربي إذا تحولت إلى أنقاض حجارة؟!
ثمَّ عودة إلى مشهد دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وصف سوء حاله، وبعد أن رفع شكواه إلى الله تعالى نجده قد أعلن عن تحليه بالصبر على سوء ذاك الحال، والطمع برضى الله تعالى عليه رغم سوء ذاك الحال، حيث قال في سياق دعائه فيما بعد: (… إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك)، وها هي هذه الكارثة الإنسانية في غزة، تدعو غزة أن تتحلى بالصبر والطمع بمرضاة الله تعالى، رغم فاجعة هذه الكارثة التي تفاقمت حتى فاقت الجبال بحجمها، وكأن لسان حال غزة يقول: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، وكأني بهذه الكارثة الإنسانية ما زادت غزة إلا توكلا على الله تعالى، وإدراكا مبصرا أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وكأني بها قد باتت ترفع شكواها إلى الله تعالى وتردد ما جاء في ختام مشهد هذا الدعاء: (لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).