عبر تعزيز الترجمة وتطوير الوعي الروائي.. أدباء ونقاد يدعون لتمكين فلسطين سرديا
أكد أدباء ونقاد عرب أن مدونة السرد العربي حملت القضية الفلسطينية منذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم بمختلف أبعادها الإنسانية والسياسية.
وقال أدباء ونقاد على هامش مهرجان كتارا للرواية العربية الذي أقيم في الفترة من 13 وحتى 19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إن الرواية العربية سواء في فلسطين أو مختلف الأقطار العربية أنجزت نصا سرديا يمتلك المقومات الفنية يظهر آثار الاحتلال الإسرائيلي على الإنسان والمكان، لتتمكن من تقديم رواية مغايرة قادرة على سرد الحكاية الحقيقية للاحتلال وترسيخ مفهوم الأدب المقاوم في الإبداع الروائي.
وذلك بدءا من أعمال غسان كنفاني وعبد السلام العجيلي وحتى اليوم لتظهر أعمال مستمرة في أدب القضية الفلسطينية مثل “تفصيل ثانوي” لعدنية شلبي، و”يرحلون ونبقى.. هناك موعدنا” للأردني موسى سمحان الشيخ، و”غيوم على الشيخ جراح” للروائي الأردني محمد القواسمة وغيرها الكثير والكثير لتبقى قضايا الصبر والثبات والمقاومة والعودة إلى الوطن من الاغتراب والمقاومة عناوين رئيسية للرواية عن القضية الفلسطينية، الإنسان والمكان.
وعي روائي بفلسطين
ومن جانبها، قالت الناقدة القطرية الدكتورة صيتة نقادان العذبة أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم بجامعة قطر، إن القضية الفلسطينية هي قضية العرب المحورية خلال الـ70 عاما الأخيرة، وقد شكلت وعي الروائيين العرب الذين تفتحت أعينهم على صداها ومعايشتهم لكل تفاصيل المعاناة التي صاحبتها، وبرزت واضحة بأبعادها المتعددة في الروايات العربية في مختلف الدول العربية وعلى مر العقود الماضية حتى اليوم.
وأوضحت لوكالة الأنباء القطرية أن الرواية العربية اهتمت بكل التفاصيل من جوانب مختلفة، فهناك روايات تناولت معاناة الفلسطيني في الشتات وفي الأرض المحتلة، وهناك روايات تناولت رؤية العرب من غير الفلسطينيين لهذا الجرح العربي النازف، فمن جانب الأديب الفلسطيني نجد أن أديبا مثل غسان كنفاني كانت القضية الفلسطينية بكل تمظهراتها هي المحتوى الوحيد لكل رواياته مثل: (رجال في الشمس) و(عائد إلى حيفا) و(ما تبقى لكم).
وأضافت العذبة، على الجانب الآخر نجد رواية “الطنطورية” للأديبة المصرية رضوى عاشور التي حكت عن قصة عائلة فلسطينية عاشت مجزرة الطنطوررة وحياة الشتات بعدها، كما كتب الجزائري واسيني الأعرج (سوناتا لأشباح القدس) ليحكي سيرة النازح الذي ينتزع من جذوره ليحيا في عالم غريب من خلال سيرة مي الفنانة التشكيلية.
ونوهت بأن من الروايات التي جعلت من القدس روحا لها نجد رواية (باب العمود) التي كتبتها نردين أبو نبعة. ورواية (أمريكانلي) للروائي المصري صنع الله إبراهيم وفيها معالجة مختلفة، وقد حضرت فيها القضية الفلسطينية في بعد مجاور لقضايا كثيرة ازدحمت في ذهن بطل الرواية الذي مثل المثقف العربي المهزوم من داخله.
ودعت العذبة، المثقفين العرب بشكل عام إلى القيام بدورهم المنوط بهم في نقل القضية الفلسطينية إلى العالم، وإظهار الظلم الفادح والخذلان الذي تعرض له الشعب الفلسطيني على مر العقود السابقة، وبات يترسخ عاما بعد عام، في تجاهل تام من المحافل الدولية، فهذه الروايات والأعمال الأدبية تقوم بدور بالغ في ترسيخ الوعي بالقضية فضلا عن توثيق تاريخ هذه المعاناة؛ بما يحفظ البعدين التاريخي والثقافي.
من جهته، قال الناقد والأكاديمي المغربي الدكتور سعيد يقطين، في حديث لوكالة الأنباء القطرية إن الرواية العربية اهتمت بالقضية الفلسطينية بعد نكسة 1967على الصعيد العربي بصفة عامة، وكان هناك تحول نوعي أسهم في تطوير الرواية العربية، ومع الزمن سواء في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أو في المنعطفات الكبرى نجد أن الحضور الفلسطيني في الرواية العربية ظل قويا وإن تعرض للخفوت بين الفينة والأخرى.
وأشار الناقد المغربي إلى أن القضية الفلسطينية في جوانبها الخاصة أو العامة، تحضر بشكل أو بآخر في الرواية العربية، منوها بأن الأحداث الأخيرة حاليا منذ عملية طوفان الأقصى، ستعطي إمكانية جديدة لتطوير الرواية العربية من جديد، ويرى أن الروائي العربي والمثقف العربي بشكل عام عليه تبني الكتابة للتعريف بالقضية، وإعادة الحديث عنها لأن هناك أجيالا جديدة لا تعرف القضية الفلسطينية.
ويضيف أن دور المثقفين هو الالتحام من جديد بالقضية والاهتمام بها، والتذكير بتاريخها، لتكون حاضرة على مستوى الإبداع العربي، رواية وشعرا وفي كافة صنوف الإبداع، وذلك لمواجهة محاولات الاحتلال الإسرائيلي لطمس معالم القضية ونسيانها نهائيا، وأن تمحى من ذاكرة الأمة، مؤكدا أن هذه المواجهة لا تتم إلا بتضافر جهود جميع المثقفين العرب.
تمكين الفلسطينيين سرديا
وبدوره، أكد عضو هيئة التدريس بجامعة قطر الناقد الفلسطيني الأردني الدكتور رامي أبو شهاب، أن تلقي الرواية الفلسطينية خارج السياق العربي، بدأ في السنوات الأخيرة متقدما قياسا على النصف الثاني من القرن العشرين، حيث أسهمت الترجمة في تمكين الصوت الفلسطيني سرديا، ومع ذلك يجب ألا ننسى بأن أولى روايات جبرا إبراهيم جبرا كانت باللغة الإنجليزية بعنوان “صيادون في شارع ضيق” 1960.
في حين يشار إلى أن الرواية الفلسطينية في تمثلها القضية قد واكبت النكبة، وربما قبل ذلك حيث تنبهت إلى خطر الاحتلال في رواية الوريث (1920) لـ “خليل بيدس”، ومن ثم سميرة عزام عبر قصصها القصيرة، بالإضافة إلى إسحاق الحسيني في رواية “مذكرات دجاجة”.
وأضاف أبو شهاب، في حديثه للوكالة القطرية، أن الرواية اتخذت تمكينها الأكثر وضوحا أو مركزية في أعمال كل من غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، وغيرهم من الروائيين الفلسطينيين، ولطالما كانت الرواية الفلسطينية ضمن تشكيل يعبر عن أزمتها ضمن كتابات الأجيال الفلسطينية فنجد روايات يحيى يخلف، ورشاد أبو شاور، وسحر خليفة، وليانة بدر، وفيصل الحوراني، وليلى الأطرش، ومن ثم نقرأ الوجع الفلسطيني كما تداعيات النكبة والشتات في روايات كل من إبراهيم نصر الله، وجمال ناجي، وعاطف سيف، وسامية عيسى، وربعي المدهون، وحزامة حبايب، وصبحي فحماوي، وأنور حامد، وغيرهم الكثير.
ونوه بأن تمثيل الصوت الفلسطيني لم يقتصر على الروائيين الفلسطينيين إنما أسهم الروائيون العرب في التعبير عن أزمة الذات الفلسطينية، وصوغ خطابات الألم واختبار الأسباب والآثار للنكبة، وتمزق الذات في روايات كل من إلياس خوري، ورضوى عاشور، وحليم بركات، وواسيني الأعرج، وإسماعيل فهد إسماعيل وغيرهم.
وأضاف تكمن قيمة القضية الفلسطينية في تلك المنظورات التي عبرتها الرواية العربية تجاه المسألة الفلسطينية من حيث تكريس فاعلية صوغ البواعث عبر تحليل أزمة الذات الفلسطينية، ولا سيما بعد النكسة، ومن ثم رسم قيم المقاومة والألم والذاكرة والشتات والتهجير، ورسم حدود لأبعاد الذات الفلسطينية خاصة المقاومة التي يمكن أن تستغرق منظورات محددة، من منطلق بأن الرواية التي تعالج القضية الفلسطينية هي رواية مقاومة في النهاية، ولكن تتخذ مستويات أو مظاهر مختلفة على مستوى الثيمات والصيغ الفنية، ولكنها تبقى متمركزة حول الوجع الفلسطيني.
وأوضح أن واقع الرواية الفلسطينية بدا أنه يمضي ضمن وضع متدرج، وذلك من حيث القدرة على تمكين قضيته (إنسانيا) عند مخاطبة الآخر، فلجأ في الربع الأول من القرن العشرين إلى استثمار مروية الذات ضمن بعدها الإنساني، بالإضافة إلى تعلق الإنسان الفلسطيني مع أرضه عبر مروية الذاكرة، وإنتاج خطاب الضحية، وتكريس قيم العدالة في بعدها الشمولي أو القيمي، ولا سيما عند مخاطبة الغرب عبر نافذة الترجمة.
وأضاف أننا نرى بعض الأعمال المركزية في المدونة الفلسطينية قد ترجمت، مثل روايات غسان كنفاني، وأعمال إبراهيم نصر الله، وسحر خليفة وغيرهم، كما ثمة رواية فلسطينية قدمت منظورات مختلفة أو جديدة في تمكين هذه القضية وأحدثت أصداء لدى الغرب، حيث جاءت بلغات أخرى غير العربية، وبوجه خاص اللغة الإنجليزية، واحتملت تعبيرا عن أصوات الفلسطينيين من قبل كاتبات، ومنهن على سبيل المثال سوزان أبو الهوى، وسعاد العامري، وابتسام بركات، وإيزابيلا حماد، ومعظم أعمالهن يقع ضمن إطار سرد ذاتي.
“صراع حضاري”
واختتم الناقد الأردني أبو شهاب، حديثه بالقول، إن ثمة الكثير من الروائيين الذين توجهوا في خطاباتهم تجاه المتلقي الغربي من أجل تمكين قضيتهم، كما أنهم يمتلكون الوعي لتأسيس فهم عادل وإنساني للقضية الفلسطينية، مؤكدا ضرورة أن يبقى وعي الرواية جزءا من محاولة تكريس الحق الفلسطيني، ولا سيما على الأدب الفلسطيني عامة الذي يحتاج إلى تنشيط أكبر على مستوى الترجمة، كي تقدم القضية ضمن سياق مضاد لمروية الاحتلال الإسرائيلي التي تعتمد مبدأ التعاطف والتباكي، فالمواجهة والمقاومة الخطابية جزء بنيوي من المقاومة عامة.
ومن ناحيته، قال الكاتب والروائي السوري نور الدين الهاشمي، إن القضية الفلسطينية لم تغب مطلقا عن ذهن الروائي العربي منذ بداياتها لأنها قضية عربية، وكثير من العرب قاتلوا مع الفلسطينيين، وكان من بينهم كُتاب مثل الكاتب عبد السلام العجيلي والذي كتب في الأربعينيات رواية “بنادق في لواء الجليل”، وآخرين، كما كانت القضية حاضرة مبكرا في الأعمال الروائية فحضرت في كتابات بديع حقي، وروايات غسان كنفاني التي تحدثت عن سلب اليهود للأراضي الفلسطينية بل وتنبأت بالمستقبل في قوالب فنية أكثر تأثيرا من الكتابة السياسية والتاريخية أحيانا.
وأضاف الروائي الهاشمي أن الصراع مع العدو الإسرائيلي صراع حضاري، وبالتالي الروائي العربي حين يكتب عن الانقسام أو التجزئة، وعن بؤر الضعف والانحدار فإنه يكتب عن القضية الفلسطينية بشكل غير مباشر فالقضية حاضرة في السرد العربي ببعدها الحضاري قبل أن تكون قضية قومية.
“حالة إنسانية يصعب اختزالها روائيا”
وفي رأي مغاير ذكر الكاتب والأديب العماني محمد اليحيائي، من الصعب أن يوجد أدب اليوم في العالم العربي على مستوى القضية الفلسطينية، لأنها متجاوزة تماما لأي محاولة للتوثيق وللتأريخ، وإن كان الكتاب الفلسطينيون، أدباء وشعراء، وثقوا هذه القضية منذ غسان كنفاني مرورا بيحيى يخلف، وكذلك الشعراء الكبار مثل محمود درويش وسميح القاسم وقبلهما توفيق زياد وآخرين، أو من أي أعمال أدبية أخرى، مشيرا إلى أن القضية الفلسطينية هي حالة إنسانية يصعب أن تختزل في أعمال روائية.
وتابع أن التجربة الروائية العربية التي قاربت القضية الفلسطينية، ما زالت قاصرة ومتأخرة، ولم تواكب هذه القضية الكبرى، مؤكدا أنه ستبقى هنالك أعمال على مستوى الرواية، وعلى مستوى الشعر، وعلى مستوى السينما، تقارب هذه القضية التي هي حية في الوجدان باعتبارها قضية إنسانية بغض النظر عن كونها عربية أو إسلامية، فهي قضية شعب تمت مصادرة حقوقه على مدى 100 عام، فحتى لو كان هذا الشعب في آخر الكرة الأرضية، سنتعاطف معه باسم الإنسانية.
وأكد اليحيائي أهمية الترجمة للروايات العربية للتعريف بالقضية الفلسطينية عالميا، مشددا على ضرورة المحافظة على البناء الفني للرواية فهي ليست مقالا أو خطابا سياسيا، كما أنها ليست وثيقة تاريخية، أو اجتماعية، بل هي تتعاطى مع العمل الروائي بصيغته الفنية بعيدا عن الخطاب المباشر الذي يضعف هذا الفن.
تباين فكري
ومن جهته، أوضح الناقد المغربي الدكتور محمد الداهي، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالمغرب، أن القضية الفلسطينية تشكل واحدة من القضايا المحورية التي استأثرت باهتمام الروائيين العرب في كل مكان، مبينا أن انتشار الرواية الجديدة بدأ بعد النكسة عام 1967، والتي تجاوبت إيجابيا مع القضية الفلسطينية على مستوى الوطن العربي.
فإلى جانب -كما يقول- أعمال الروائيين الفلسطينيين المشهورين كغسان كنفاني وغيره، نجد مختلف الكُتّاب العرب ففي المغرب تبرز القضية في رواية “رفقة السلاح والقمر” لمبارك ربيع، ويوسف القعيد وصنع الله إبراهيم من مصر، فكانت موضوعا مهما عند الروائيين العرب، لتدخل في إطار التحرير والنضال القومي. واستأثرت القضية الفلسطينية باهتمام بطل الرواية الإشكالي إلى جانب المراهنة على تحسين الأوضاع الاجتماعية، فكان الرهان على تحرير فلسطين وإجلاء المحتل.
وأشار الداهي إلى وجود تباين فكري عند الروائيين العرب في معالجة القضية الفلسطينية روائيا تبعا للاختلافات السياسية، منوها بأن السنوات الأخيرة حملت نوعا من التراجع في معالجتها وبرزت مشكلات جديدة على السطح غيّبت نسبيا هذه القضية، لافتا إلى أن الروائي العربي ليس سياسيا، ودائما يتخذ مسافة من الأحداث. وإن كان الفن الروائي جزءا لا يتجزأ من الحركة الاجتماعية، فإننا نحتاج إلى روائيين شباب يتناولون القضية الفلسطينية من منظور وشكل جديدين.