سياسات عقابية بطابع الحكم العسكري
ساهر غزاوي
منذ الساعات الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وعقب بدء عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية صباح السبت السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يتعرض أبناء الشعب الفلسطيني في أراضي الـ 48- كونهم في دائرة الاستهداف المباشر من قبل المؤسسة الإسرائيلية- إلى سياسة الترهيب والترويع بُغية منعهم من إسماع صرخة الغضب والتظاهر والاحتجاج ضد الحرب أو التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك في إطار السعي الإسرائيلي المحموم لمحاولة عزلهم كفلسطينيين، جغرافيًا وشعوريًا وحتى إنسانيًا عن شعبهم الفلسطيني.
سياسة الترهيب والترويع هذه، نتج عنها ملاحقة أمنية لطلبة الجامعات والكليات المختلفة والموظفين بالمؤسسات الحكومية والقطاعات الخاصة، حيث تعرض بعضهم للفصل من الدراسة والعمل. هذا فضلًا عن ما تعرض له أبناء الداخل الفلسطيني، من تهديدات يومية سواء من المجموعات اليهودية المتطرفة أو من المؤسسة الإسرائيلية التي تتمادى بالتحريض على الوجود الفلسطيني وتمتنع عن التعامل مع تهديدات واعتداءات المستوطنين، مثل القائمة الطويلة التي نشرتها مجموعة إسرائيلية تطلق على نفسها اسم “صياد النازيين”، وتضم هذه القائمة أسماء قيادات ونشطاء من الداخل الفلسطيني وصورهم وعناوين بيوتهم، ليسهل الوصول إليهم لقتلـهم.
ونتج عن هذه السياسة أيضًا، ملاحقات أمنية وحملة اعتقالات واستدعاءات واسعة للتحقيق في المجتمع الفلسطيني في الداخل، معظمها على خلفية منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، منها ما تحوي على آيات قرآنية وأدعية نبوية فُسّرت على أنها تماهٍ مع المقاومة وإسناد للفلسطينيين بغزة وليست مناهضة للحرب. أي أن المؤسسة الإسرائيلية الأمنية والسياسية تشنّ حملة تحريض دموية غير مسبوقة وتلاحق وتحاسب على النوايا والمشاعر وليس على الأفعال.
يحضرنا في السياق ما قاله دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل بعد قيامها، في معـرض تناولـه لعلاقة مؤسسـات الدولـة مـع مواطنيها العـرب والتشديد والتضييق عليهم تحت نظام الحكم العسكري: “يجب الحكـم على العرب ليـس مـن منطلـق ما يفعلـون ولكن يجـب التعامـل مع مـا يفكـرون بفعله”، أي أن المحاسبة على النوايا والمشاعر وليس على الأفعال ثقافة متجذرة ومتوارثة في العقلية والأيدلوجية الصهيونية.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن كل الممارسات والسياسات العقابية الإسرائيلية تُظللها قوانين شُرعت خصيصًا لملاحقة فلسطينيي الداخل ومحاكمتهم وإنزال أقصى العقوبات بهم لمجرد تضامنهم مع أبناء شعبهم الفلسطيني، على اعتبار أن الدولة في حالة الحرب وحالة طوارئ، ما معناه توظيف القوانين الانتدابية تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب” إلى جانب وضع مقدرات البلاد اللوجستية وبناها التحتية تحت تصرف الجيش، من أجل تحقيق أهدافه.
فمنذ بداية حرب 1948 فُرض على المناطق العربية في فلسطين التي احتلتها قوات “الهاغاناه” الصهيونية حكم عسكري صارم. وفي 18/5/1948 أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن فرض نظام الطوارئ متبنية قوانين الدفاع (الخاصة في حالات الطوارئ) الصادرة في عام 1945 أيام الانتداب البريطاني. هذه القوانين قضت بإنشاء محاكم عسكرية لمحاكمة المدنيين دون أن يكون لهم حق الاستئناف، ومنحت الجيش صلاحية إغلاق مناطق معينة، وحظر التجوال في أي قرية أو مدينة، وإجراء التفتيش والاعتقال بدون محاكمة، وهدم البيوت ومصادرة أراض لضروريات الأمن، ومنع نشر كتب وصحف، بالإضافة إلى الاعتقال الإداري والنفي لمكان بعيد عن مكان سكنى الشخص المعتقل.
هذا النظام الذي فرضته إسرائيل من العام 1948 وحتى العام 1966 الذي حوَّل حياة الفلسطينيين سكان البلاد الأصلانيين إلى عسكرية، هدف بالأساس إلى منع الفلسطينيين اللاجئين من العودة لأراضيهم، وهدف كذلك إلى تقييد الحركة والنشاط والتنظيم السياسي وحرية التعبير والتحكم بمصادر الرزق والعيش، ومحاولة بناء قيادات تتعاون مع مؤسسات وأذرع المؤسسة لتيسير التحكم بشكل تام بالأقلية الفلسطينية الأصلانية التي بقيت في ديارها.
وإذا كان نظام الحكم العسكري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي هدف بالأساس إلى منع الفلسطينيين اللاجئين من العودة لأراضيهم، فإن موروث الحكم العسكري الذي ما زالت روحه حيّة حتى اليوم من ممارسات وسياسات عقابية وسلوكيات سلطوية إسرائيلية تجاه فلسطينيي الداخل- سكان البلاد الأصلانيين- منذ الساعات الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يهدف بالأساس إلى عزل فلسطينيي الداخل جغرافيًا وشعوريًا وإنسانيًا عن شعبهم الفلسطيني لتفريق أجزائه ومنع التحامه وترابطه ولو إنسانيًا، ولو من خلال التعبير بكلمات قليلة عن الألم الإنساني من كثرة مشاهد المآسي المتعاقبة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
في الختام، فإن العقلاء يعرفون أن قانون الفيزياء يقول إن الضغط يولد الانفجار وإن التوازن شيء أساسي ومهم في جميع الأمور. والعقلاء يعرفون أنه في حال اختل هذا التوازن وخرج عن الحد الطبيعي والمسموح، فإن شيئًا سلبيًا بالتأكيد سوف يحدث.. نعم هكذا يقول قانون الفيزياء والأهم أنه هكذا تقول سنن الله في الكون، ولنا في التاريخ عبرة. والحكمة البليغة تقول “العاقل من اتعظ بغيره والأحمق من اتعظ بنفسه”.