معركة الوعي (177) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (15)/ الأخيرة
حامد اغبارية
يحاول رايتر- يائسا- أن يركّز على التناقضات في مواقف السياسيين من جهة وعلماء الإسلام من جهة أخرى فيما يتعلق بما يسمونه “السلام مع إسرائيل”، وخاصة عقب جريمة اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها السادات مع مناحيم بيغن، في أمريكا، فاتحًا المجال لما جرى بعد ذلك من تنازلات متتابعة، وصولا إلى أوسلو ثم إلى جرائم التطبيع التي شاركت فيها عدة أنظمة عربية.
ومما اختاره رايتر للتدليل على ما يسميه التناقض في المواقف، موقف وليّ العهد السعودي فهد بن عبد العزيز، الذي أعلن رفضه لاتفاقية كامب ديفيد قائلا إن “ما يقترحه السادات لا يستطيع أي عربي قبوله… يريد السادات أن يتبع كل العرب خطاه. كنا نود ذلك لو كانت هذه الطريق تؤدي إلى تحقيق آمال العرب…” (ص97)، إلا أن فهد نفسه أعلن بعد سنتين من هذا الموقف، بعد أن أصبح ملكا للسعودية، الخطة المعروفة باسم “خطة الثماني نقاط لسلام شامل بين إسرائيل والدول العربية”.
يتحدث فهد بن عبد العزيز في الحالتين باسم العربية السعودية، التي أوهم حكامُها الأمةَ بأنها تمثل الإسلام والمسلمين، في حين أنها في الحقيقة لا تمثل حتى شعبها الواقع تحت القمع وتكميم الأفواه وكبت الحريات العامة، ليتضح فيما بعد، أنها لا تمثل من الإسلام شيئا، وأن العائلة الحاكمة التي استولت على الحكم بدعم من الاستعمار البريطاني، أنبتت حولها زمرة من علماء السوء الذين يصدرون الفتاوى السلطانية بعد تفصيلها حسب طلب النظام الفاسد وحسب مزاجه. وفي التالي فإنه لا يُبنى شيء أصيل على موقف فهد بن عبد العزيز الأول ولا الثاني، لأنه لم تحركه المبدئية في المواقف، وإنما هو التبعية التامة للموقف الأمريكي، بعد تطعيمه بهيئة عربية حتى تنطلي الخدعة على بسطاء الناس وسذّج السياسة. وقد كان هذا شأن ملوك آل سعود منذ تأسيس مملكتهم على أنهار من دماء الأبرياء. ولم يشذّ عنهم سوى واحد، هو الملك فيصل رحمه الله، الذي تجرأ على الخروج عن التلم الأمريكي، فقرروا قتله والتخلص منه.
وأنت تلاحظ أن فهد بن عبد العزيز يتحدث عن “العرب” وليس عن المسلمين، وكأن العلاقة بقضية الصراع على فلسطين هي شأن عربي وليست شأنا إسلاميا يخص الأمة كلها. ثم تراه يعترف ضمنيا بحق “إسرائيل” في فلسطين وهو يعرض خطته تلك ويتحدث فيها عن “سلام شامل بين إسرائيل وبين العرب”. وبذلك يكون قد أخرج القضية من كونها شأنا من شؤون الأمة، إلى شأن عنصري عرقي يخص العرب وحدهم! ثم يلجأ إلى فتاوى علماء السلطان لمنحه المخرج الشرعي لاتخاذ مثل هذه المواقف. هذه هي حقيقة الأنظمة العربية الوظيفيّة التي أدّت، ولا تزال تؤدي دورا لا يخدم سوى مصالح الغرب الذي نراه اليوم عن بكرة أبيه يقدم الدعم الكامل ودون تحفظ للاحتلال في حربه على غزة. لذلك لم يتصرف الملك فهد في ذلك الحين عن فكرة من رأسه، بل من رأس البيت الأبيض الذي يأمرهم فيطيعون، وينهاهم فينتهون. فلا استقلالية ولا كرامة ولا يحزنون، حتى بمستوى الكرامة التي كان العرب في الجاهلية يفاخرون بها.
هذه الحالة تنسحب على جميع الأنظمة العربية التي وجدت من علماء السلاطين من يصدر لها الفتاوى ويزين لها أعمالها. ومنها من أقدم على إجبار علماء على إصدار فتاوى تخدم نهجهم واستسلامهم لأجندة الغرب الصليبي التي تخدم في نهاية المطاف أجندة المشروع الصهيوني. وهذا ما حدث مثلا مع علماء الأزهر.
فقد أجبرهم السادات على إعلان موقف شرعي يدعم مبادرته “للسلام مع إسرائيل”. وإنك إذا راجعت سلسلة الفتاوى والمقالات التي غصت بها الصحافة المصرية في ذلك الوقت ستقف مشدوها أمام ليّ أعناق آيات القرآن والأحاديث الشريفة لتنسجم مع رغبات الحاكم بأمره، الذي أطلق على نفسه لقب “الرئيس المؤمن” ليدلس على الناس ويمضي في خطته، كما استخدم مصطلح “من موقف القوة”؛ تلك المقولة التي رددتها خلفه جوقة النفاق من إعلاميين وعلماء سلطان، ليوهم الأمة بأن ما يفعله مسوَّغٌ شرعيا ويفعله من منطلق القوة التي حققها بعد حرب رمضان 1973، تلك الحرب التي ما وقعت إلا لكي تصل بالسادات إلى المكان الذي وصل إليه في نهاية المطاف. فقد كان السادات قد وضع أوراقه (وعنقه) في قبضة أمريكا، كما أعلنها صراحة.
وقد طالبته أمريكا بعقد اتفاقيات مع تل أبيب، لكنه أراد صورة انتصار يقنع بها شعبه وسائر الشعوب العربية بما سيقدم عليه لاحقا؛ “انتصار” يمحو به عار النكسة، أو بتعبير أدق، يوهم الناس بأنه تمكن من محو ذلك العار. وقد رأينا وما زلنا نرى آثار ذلك الانتصار المشوّه، وآثار تلك الاتفاقية البائسة التي عقدها مع تل أبيب.
كما تنسحب هذه الحالة على مثال مفتي الديار المصرية الدكتور جاد الحق علي جاد الحق، رحمه الله، الذي يقدمه رايتر نموذجا للفتاوى التي منحت الشرعية لاتفاقية كامب ديفيد. فقد قال في فتواه إن المعاهدة مع إسرائيل تستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية وإن السادات حافظ على حقوق العرب!! مقدما “صلح الحديبية” نموذجا يقتدى به في هذه الحالة.
لكنّ الشيخ جاد الحق تراجع عن فتواه تلك بعد مقتل السادات وبعد أن أصبح هو شيخا للأزهر، ذلك المنصب الذي منحه فسحة أكبر من الاستقلالية بالرأي. فأي الموقفين نأخذ؟ وأيهما نرفض؟
لقد سبق في تاريخ الأمة أن العلماء الذين كان الواحد منهم بقدر مائة عالم من أمثال الشيخ جاد الحق علما بالحق وخشية لله وجرأة في قول الحق، ومع ذلك ضعفوا ورضخوا لأمر الحاكم خوفا من العقوبة أو تحت التعذيب والسجن. ففي أواخر فترة حكم الخليفة العباسي المـأمون، وقعت فتنة خلق القرآن التي ابتدعها المعتزلة في زمانه. وقد حمل المـأمون العلماء، بل والناس كافة على اعتناق مقولة خلق القرآن، وتبعه في ذلك خليفته المعتصم ومن بعده الخليفة الواثق، لتستمر الفتنة أكثر من ثلاثين سنة، كان هؤلاء الخلفاء يَجلدون ويَعذبون ويَسجنون من يرفض مذهبهم هذا. بل أقدموا على قتل بعضهم مثل الإمام بن نصر الخزاعي. ولم يثبت على الحق سوى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه والإمام محمد بن نوح رحمه الله.
فهل يشك أحد أن السادات الذي سجن الآلاف من الإسلاميين الرافضين لنهجه، وعذبهم زبانيته، قد أجبر الشيخ جاد الحق على إصدار تلك الفتوى تحت التهديد والوعيد؟ لو لم يكن الأمر كذلك لما تراجع الشيخ عن فتواه بعد رحيل السادات! ولدافع عن فتواه وأصر عليها، طالما أنها حقيقة قائمة على الشريعة.
خلاصة القول إن رايتر بحث في كتابه هذا عن مبررات شرعية ليمنح الشرعية للسلام والتطبيع الذي عقدته أنظمة عربية مع تل أبيب، وفي التالي منح الشرعية الإسلامية لوجود المشروع الصهيوني في فلسطين. وهذا ما أعتقدُ أنه قد فشل فيه فشلا ذريعا. (انتهى).