أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتفاءلون
الشيخ كمال خطيب
الأمل، ذاك الشعاع الذي يلوح للإنسان في دياجير الحياة فيضيء له الظلمات وينير له المعالم ويهديه السبيل. الأمل هو ذاك الذي به تنمو شجرة الحياة ويرتفع صرح العمران ويذوق الإنسان طعم السعادة ويحس ببهجة الحياة.
الأمل، تلك القوة التي تدفع الإنسان للعمل وتخلق عنده دواعي البذل والكفاح، فتدفع الكسول إلى الجد والجاد إلى المزيد، وهي التي تدفع الفاشل لتكرار المحاولة حتى يتحقق النجاح.
. إن الذي يدفع الفلاح للكدح والعرق، أمله بالحصاد.
. وإن الذي يدفع التاجر بالسفر والمغامرة، أمله بالربح.
. وإن الذي يدفع الطالب للمثابرة والسهر، أمله بالنجاح.
. وإن الذي يدفع المريض لتحمل الدواء المر العلقم، أمله بالشفاء.
. وإن الذي يدفع المؤمن أن يخالف هواه وغرائزه ويكبح جماح شهواته، أمله بنيل رضى الله والجنة.
. وإن الذي يهون على الشعب المظلوم الذي احتلت أرضه الصبر، أمله بالتحرر والازدهار.
فالأمل إذًا هو مفتاح تفتتح به العقبات، والأمل ضياء تتبدد بنوره الظلمات، وهو باعث بهجة وسرور في أوقات الشدة والكربات، وفيه قد قيل: “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”.
والأمل والتفاؤل هو عكس اليأس والإحباط والتشاؤم، فإن كان اليأس يقيل الهمة ويطفئ جذوة العزيمة ويحطم بواعث العمل ويوهّن في الجسد دوافع القوة، فالأمل عكس ذلك وضده.
فها هو التلميذ إن يئس من النجاح نفر من الكتاب والقلم وضاق بالمدرسة والمعلم، ولم تعد تنفعه النصائح ولا الدروس ولا المذاكرة إلا أن يرجع إليه الأمل.
وإن المريض إذا يئس من الشفاء تبرم من مرارة الدواء وأبغض العلاج والطبيب، وقد يصل به الحال أن يضيق بالحياة كلها إلا أن يعود إليه الأمل وإلا أن تنبض في قلبه تلك الروح الناظرة إلى المستقبل الواعد من جديد.
وإنَّ الإنسان أي إنسان، فإنه إذا تغلّب عليه اليأس اسودت الدنيا في وجهه وأظلمت في عينيه وأغلقت أمامه الأبواب وضاقت عليه الأرض بما رحبت. إنه اليأس إذن عدو الأمل، ومخدر الشعور والإحساس، إنه سم الروح وهادم التقدم والإقبال.
من أجل ذلك فقد حارب الإسلام اليأس واعتبره من الكفر والضلال {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} آية 87 سورة يوسف، {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} آية 56 سورة الحجر. بل إن اليأس ليس فقط أنه يذهب الإيمان، بل إنه قد يوصل الإنسان إلى حالة الشك في الله تعالى وفي غاية وجود الإنسان في الحياة كما كان يقول أبو العلاء المعري واصفًا استمرارية الحياة بالجناية على الإنسان فقال:
هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد
وفي مقابل ذلك تجد أبو القاسم الشابي يقول في قصيدته الثورية الخالدة:
اذا الشّعْبُ يَوْما أرَاد الْحَيَـاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدر
ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
الأمل من الإيمان واليأس من الشيطان
اليأس طريق منتهاه الشك والريبة، أما الأمل فطريق منتهاه الى الإيمان. فالمؤمن أكثر الناس أملًا وأكثرهم تفاؤلًا واستبشارًا. المؤمن إذا أذنب ذنبًا كان معه الأمل أن له ربًا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. إن معه الأمل يقابل به الذنب وهو يعلم أن له ربًا يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات وأمله ويقينه أن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، إله كريم رحيم يجزي الحسنة بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو، ليس للمؤمن أن يقول: عظم ذنبي لن يغفر الله لي، بل عليه أن يقول:
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً. فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ. إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ. فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ.
المؤمن يظل على أمل أن عاقبة أمره إلى خير وإلى عز وإلى كرامة، وذلك أنه مع الله فلا بد أن الله سيكون معه {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ*إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ} آية 171-172 سورة الصافات. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} آية 40 سورة الحج.
المؤمن إذا مرض أو جاع فهو على الأمل يتلو قوله تعالى: {والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ*وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ} آية 80-81 سورة الحج.
المؤمن يظل على يقين إذا أصابه العسر فإنه يظل على أمل باليسر {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} آية 5-6 سورة الشرح. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: “لو دخل العسر جحرًا لتبعه اليسر”.
والمؤمن إذا أصابته كارثة أو مصيبة من مصائب الزمان سواء كانت بفعل الإنسان أو بفعل عوامل الطبيعة وقعت بإذن الله تعالى، فإنه يظل على أمل أن الله يؤجره في مصيبته {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} آية 156 سورة البقرة.
والمؤمن إذا رأى الباطل يصول ويجول ويعربد في غفلة أهل الحق وضعفهم، فإنه يظل على ذات الأمل أن الباطل إلى زوال وإن الحق إلى ظهور وانتصار بإذن الله تعالى {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} آية 18 سورة الأنبياء. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} آية 17 سورة الرعد.
وإنّ المؤمن إذا أدركته الشيخوخة واشتعل الرأس شيبًا وأوشكت شمس العمر أن تغيب، فإنه إن كان قضى العمر في طاعة الله وخدمة الدين والوطن فلا هو يندم ولا يتحسر على ما فاته من متاع الدنيا، بل إن قلبه ينبض باليقين والأمل بحياة أخرى فيها شباب بلا هرم، وصحة بلا مرض، وحياه بلا موت، وسعادة بلا شقاء {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا*لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ۖ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} آية 61-62 سورة مريم.
لأنك الله
ترى الماديون من الذين لا يؤمنون بالله تعالى وأسمائه وصفاته ولا اليوم الآخر ولا القضاء والقدر، فإنهم لا يقيّمون الأشياء إلا من خلال الأسباب الظاهرة. أما المؤمنون فإنهم يعلمون أن من وراء الأسباب الظاهرة مسببًا هو سر الوجود، إنه الله سبحانه خالق الأسباب والمسببات إليه يلجأ المؤمنون بقلوبهم وألسنتهم حين تدلهمّ الخطوب وتستحكم الحلقات ويضيق الخناق على الأعناق.
يتوجه إليه المريض الذي استعصى مرضه على الأطباء، فيقول له: يا رب وقفت على باب كل الأطباء فلم يبق إلا بابك أقف عليه، اللهم أذهب البأس رب الناس أشف أنت الشافي.
ويتوجه إليه المكروب والمهموم ومن أصابته مصيبة في ماله أو ولده فيقول له ويناديه ويناجيه: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي”. “اللهم أنت الخلف من كل فائت، وأنت العوض من كل مفقود”.
ويتوجه إليه المظلوم أملًا أن ينتصر يومًا على ظالمه والمسجون على سجّانه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}.
ويتوجه إليه المحروم من الأولاد والذرية يسأله أن يرزقه :{رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} آية 59 سورة الأنبياء. إليه يتوجه كل هؤلاء وكلهم على أمل أن يُستجاب سؤلهم وأن يتحقق رجاؤهم، فما ذلك على قدرة الله ببعيد وما ذلك على الله بعزيز.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وارض به فإن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الكافي الله
فوالله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله
وينادي ربه ويردد:
لأنك الله لا خوف ولا قلق ولا غروب ولا ليل ولا شفق
لأنك الله قلبي كله أمل لأنك الله روحي ملؤها الألق
أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتفاءلون
إن اليائسين تخلق في طباعهم وتتولد في سلوكياتهم طبائع وسلوكيات غريبة، كلها تعبر عن الأنانية وحب الذات وكره الآخر. إنهم يصبحون أصحاب منطق أنا أو ليذهب غيري إلى الجحيم. إنه منطق الأنا وتغليبه على منطق المصلحة العامة والجماعة.
وليس ذلك وحسب، بل إن اليائس والمحبط يحقد على كل صاحب وحامل رسالة، وعلى كل متفائل، ويسعى لتخليص شعبه وأهله من مستنقع اليأس والإحباط والأنانية.
فهؤلاء تراهم يعتبرون التفاؤل تهمة وتراهم يعيبون على من يزرع الأمل ويصفونه بصفات السطحية والجهل وبأنه يدغدغ المشاعر بلا رصيد، وينادون تحت مسميات الواقع والبراغماتية بدعوة الانبطاح والخمول والتخدير.
وإذا كان الشاذون الذين فسدت طباعهم وانحرفت فطرتهم من قوم لوط قد قالوا عن المصلحين أصحاب الفطرة السليمة: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} آية 82 سورة الأعراف. فإن لسان حال اليائسين والمحبطين اليوم يقولون: “أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتفاءلون”.
وإذا كان اليائسون يعشقون العيش في الظلام والوحل والاستعباد، فإن المتفائلين لا يرضون العيش إلا في النور وفي المعالي وفي الحرية موقنين بالفرج وأن القادم لا شك أفضل، شعارهم في ذلك قول رسولهم ﷺ: “واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا”.
ويترنمون بأبيات الشعر قالها الشاعر في رده على من عابوا عليه تفاؤله وإفراطه في الأمل:
عجبت لهم قالوا تماديت في المنى وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعب
فأقصر ولا تجهد يراعك إنما ستبذر حبًا في ثرى ليس بالخصب
فقلت لهم مهلًا فما اليأس شيمتي سأبذر حبّي والثمار من الرب
نعم، اليوم وغدًا وكل يوم..
نعم وألف نعم ومليون نعم..
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.