معركة الوعي (175) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (13)
حامد اغبارية
يكذب رايتر (في الصفحة 47) بوقاحة حين يقول إن مفكري الإسلام التابعين للتيار الواقعي وقفوا حاجزا منيعا في وجه فقهاء القرون الأولى للإسلام الذين أقرّوا بأن الحرب هي الحالة الطبيعية بين المسلمين وغير المسلمين. وأتحداه أن يأتي بنص صريح وصحيح يقول إن (الحالة الطبيعيّة هي الحرب)! بينما قدمنا في المقالات السابقة العديد من الأدلة والنصوص التي تؤكد عكس ما يقول.
بعد ذلك يقول، نقلا عن كتاب “العلاقات الدولية في الإسلام” (ص43) لمحمد أبو زهرة إنه “وفقا لما جاء في القرآن الكريم (آية السلام 8:61) فإن المسلمين ملزمون (التشديد هكذا عنده) بقبول السلام إذا نزع الأعداء إلى السلم”. وقد رجعنا إلى الصفحة (43) من كتاب “أبو زهرة” ولم نجد هذا النص الذي ينسبه رايتر له. ففي تلك الصفحة يتحدث المؤلف عن الوفاء بالعهود والمواثيق بعد عقدها مع الأعداء في سياق يختلف كليا عما ذهب إليه رايتر.
ثم يقول إن “أبو زهر” أضاف بأنه يرى أن الحرب رجس من عمل الشيطان. وذلك دون أن يشير إلى رقم الصفحة التي اقتبس منها هذا الكلام! وقد بحثنا عن هذا التعبير في الكتاب فلم نجده. أما ما وجدناه فهو قول “أبو زهرة” إن الإسلام دعا إلى السلم في كافّة أحواله، وإنه اعتبر الحرب من إغراء الشيطان ومن يسير فيها فإنما يسير في خطوات الشيطان. وهو يقول هذا الكلام في سياق حديثه عن العدالة والرد على العدوان بالمثل وعدم تجاوز “المثل في الردّ”، وضرورة محاربة الفساد والإفساد في الأرض حفاظا على أمن الناس وحقوقهم، منبّها إلى أن الملك الذي يخرج في حرب لنزوة في نفسه، لا لتحقيق عدالة أو رد عدوان أو رفع الظلم عن الناس، فهو الذي تشمله مقولة إن الحرب من إغراء الشيطان. وإلا فإن بدرًا وأحد وحنين والخندق وتبوك وسائر غزوات الرسول ثم القادسية واليرموك وغيرهما يشملها هذا الكلام، وتقع تحت تلك المقولة التي يحرفها رايتر عن مقاصدها الحقيقية. فهل تجد مسلما بمن فيهم محمد أبو زهرة يجرؤ أن يقول هذا الكلام؟
ومن المفيد أن نذكر كذلك بعضًا مما تجاهله رايتر في كتاب “أبو زهرة” خشية أن يقع في مطب التناقضات. ومما يقوله أبو زهرة:
– إن التسامح الذي يؤدي إلى ضياع الحقوق لا يكون تسامحا ولا رحمة، بل ظلما، فالتسامح مع الظالمين آحادا أو جماعات (أمثال الاحتلال الإسرائيلي الذي نهب حقوق الفلسطينيين) قسوةٌ على المظلومين الذين استبيحت حقوقهم.
– إن الفضيلة الإسلامية تدعو إلى استعلاء الحق، ولا يستعلي الحق إلا إذا كانت العدالة قائمة، وإن الذين يتسامحون مع الظالمين لا يمكن أن يكونوا فضلاء (ص37).
فإذا كانت الدنيا كلها ترى الظلم الذي يوقعه الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين والمسلمين، خاصة مما نراه من جرائمه في القدس والأقصى اليوم وطوال الوقت، فهل من السلم والتسامح أن يزحف الفلسطينيون والعرب والمسلمون على بطونهم لعقد معاهدات السلام مع تل أبيب؟!
ثمَّ يقول رايتر في الصفحة (56) إن المفكرين المسلمين (هناك فرق بين الفقيه وبين المفكر، إلا أن رايتر يضعهم جميعا في بوتقة واحدة) الذين يرون أن الوضع الطبيعي بين المسلمين وغير المسلمين هو حالة السلم، أنه يجوز التوقيع على معاهدات دائمة وغير محدودة الزمن مع الكفار. موردا نماذج يقتبسها من كتاب “النظام السياسي في الإسلام: النظرية السياسية، نظام الحكم” لعبد العزيز الخياط، ومن كتاب “العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية” لسعيد المهيري الذي ينقل عنه أنه قال إن الجدوى تبرر في كثير من الأحيان التوقيع على المعاهدة طويلة الأمد. بينما ينقل عنه في الصفحة (58) قوله إن “الاتفاقيات التي تُبرم لدواعي الضرورة هي اتفاقيات تنتهي مدة نفاذها بزوال تلك الضرورة”. فما هي مشكلة رايتر مع كل هذه التناقضات؟ إنه فقط يريد أن يبرر شرعية تلك الاتفاقيات المشبوهة التي عقدتها بعض أنظمة الحكم العربية وبعض المسلمين والفلسطينيين مع دولته التي لم تترك عهدا ولا ميثاقا إلا ونقضته أنكاثًا وجعلته أثرا بعد عين.
طبعا يقر كثير من العلماء والفقهاء هذه المسألة، ويؤكدون جواز عقد معاهدات طويلة الأمد أو معاهدات مفتوحة قابلة للتمديد. وهذه مسألة يمكن القول إنها مفروغ منها. لكن رايتر نسي أن يقول رأيه في حالة أن الدولة الكافرة خرقت شروط المعاهدة الموقعة معها. كيف يفترض أن تتصرف الدولة المسلمة عندها؟ ومن المفيد كذلك أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء وولاة أمر المسلمين في كل العصور ما عقدوا معاهدة ولا اتفاقية إلا وفي نيّتهم أن تدوم إلى الأبد طالما أن الطرف الآخر يلتزم بشروطها. وإذا كان هناك من أخذ قضية السنوات العشر في صلح الحديبية فإن هذا التحديد كان لسبب لا ينسحب على جميع الاتفاقيات والمعاهدات. فالمسلمون زمن الحديبية هم من أهل مكة أصلًا، وأرادوا أن يدخلوها للتعبد، فجاء تحديد الوقت بعشر سنوات ضمانا لحقهم في دخول مكة بعدها، مع علمهم أنهم لا يمكن أن يخونوا ولا ينقضوا العهود. فلما نقضتها قريش دخلها المسلمون، بعد سنتين فاتحين، محققين العودة إلى بلدهم رغم أنف ناقضي العهود.
ويسوق رايتر (بعظْمةِ لسان قلمه) ستة نماذج ينقلها عن عبد العزيز الخياط حول معاهدات سلام أبرمها الرسول (صلى الله عيه وسلم) مع يهود المدينة ومع سكان إيلات (هكذا في المصدر، غير أنه يقصد أيلة)، وجربا (في الأصل جرباء) وإضرح (في الأصل أذرُح) ومُكنا (في الأصل مقنا) ونجران. فهل يتذكر رايتر مثلا نقض يهود المدينة للمواثيق والعهود والمعاهدات، وتآمرهم مع قريش وغيرها من أجل استئصال شأفة الإسلام؟ وهل يمكن أن يذكر لنا ماذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام معهم عندئذ؟ هل تسامح مع الخونة والمتآمرين والمفسدين وأصر عن أبدية المواثيق التي عقدها معهم؟
ولماذا تجاهل رايتر أن المعاهدة مع أهل جرباء وأيلة ومقنا وأذرح عقدت أثناء غزوة تبوك، مقابل جزية يدفعونه، وأنهم هم الذين طلبوا الصلح طلبا للأمن؟ ولماذا تجاهل أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر في عهده إلى أهل أيلة أن “من أحدث منهم حدثا فإن ماله لا يحول دون نفسه”، أي أن من نقض العهد وغدر فإنه لن تقبل منه الجزية بعد ذلك وإنما هي الحرب؟
يقول رايتر (ص58) إن المفكرين المعاصرين من أصحاب التوجهات المتطرفة المتشددة يشنون انتقادات لاذعة على المحللين العصريين الذين يؤيدون حالة السلام، وعلى علماء الشريعة القدامى الذين يعتبرهم العصريون مرجعا لهم، فهم يصفون محمد عبده وأتباعه من بعده بـ”الانهزاميين الروحيين”، كما ينقل عن كتاب “المعاهدات الدولية في الشريعة الإسلامية” لإياد هلال.
فما هو التطرف والتشدد في نظر رايتر؟
لو أنك استعرضت موقف أعداء الإسلام، وخاصة المستشرقين ودولة الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا وكل الغرب الصليبي والشرق الملحد، من هذه المسألة لوجدت أن كل من يخالف موقفهم أو يعبر عن موقف أصيل يطالب بالحقوق يُعتبر في نظرهم متطرفا متشددا، ذلك أنهم يريدونه إسلاما خفيف الوزن، أو “كيوت” كما يقال، منزوع الدسم، ليس فيه ثوابت ولا جهاد في سبيل الله، ولا جرأة في الحق، ولا نصرة للمظلوم، ولا ضربٌ على يد الظالم. لأنك إذا أسقطت مواقف هؤلاء الذين يصفونهم بالتشدد والتطرف على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام لما وجدتهم يختلفون في أفعالهم ومواقفهم عنها.
أما موقف الذين يصفهم رايتر بالتطرف والتشدد من المحللين العصريين الذين يؤيدون السلام، فهي عملية تضليل، ذلك أن موقف هؤلاء محصور فقط في “السلام مع الاحتلال” أيًّا كان هذا الاحتلال، بما في ذلك المؤسسة الإسرائيلية. فليس هناك مسلم على وجه الأرض ولا من الذين أصبحوا تحت الأرض بعد أن رحلوا عن دنيانا، يكره السلم والسلام والموادعة. لكنَّ المسلم المتمسك بثوابت دينه وعقيدته لا يقبل الذل والدونية والمهانة تحت مسمى “معاهدات السلام”.
(يتبع)…