الحجاب، النقاب، العباءة.. ماذا بعد؟!
ليلى غليون
إلى كل قابضة على الجمر في كل زمان ومكان، خاصة في هذا الزمن الذي تحارب فيه الفضيلة والعفة بكل وسيلة، بل تسنُّ لمحاربتها ومعاداتها القوانين في محاولات بائسة للقضاء عليها. إلى كل من أبت ولا تزال تأبى المساومة والمفاوضة على ثوابتها ومعتقداتها وظلت شامخة في عليائها ثابتة راسخة رسوخ الجبال، أبية تنكسر على صخرة صلابتها كل القوانين الوضعية التي تسعى كالأفعى الناعمة للانقضاض على حشمتها ووقارها وتقويض صرح الفضيلة والأخلاق والذي هو من لب عقيدتها، إليك أيتها الشامخة في زمن النكوص إليك أيتها الأبية في زمن الركوع ألف تحية تلفها الدعوات الخالصة لك بالثبات والستر في الدنيا والآخرة. أسوق هذه المقدمة والضربات تتوالى على حجاب المرأة المسلمة من الغريب ومن القريب، لتعود هذه القضية تطفو على سطح الأحداث العالمية، ومرة أخرى يتحول لباس المرأة المسلمة إلى مادة للنقاش، بل (تهمة جاهزة) تواجهها من ترتديه، ليس في بلاد الغرب فقط بل في بلاد العرب والمسلمين، هذه الحرب السافرة ليست وليدة اليوم ويبدو أنها مستمرة ولن تنتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكنها بلا أدنى ريب، حرب خاسرة على من يشعلها ويثيرها الذي يبدو أنه لم يتعلم من دروسها وعبرها السابقة أنه كلما اشتدت الحرب على حجاب المرأة المسلمة كلما اشتدت تمسكًا وتشبثًا به ولو كلفها ذلك غاليًا.
فها هي مصر أم الدنيا الدولة العربية الإسلامية من يربض الأزهر الشريف على ترابها، تعلن وزارة التربية والتعليم فيها حظر ارتداء النقاب في المدارس والجامعات، بل ووضعت قيودًا وشروطًا على الحجاب في المدارس، وفي ذات الوقت فها هي فرنسا والتي تعتبر موطن أكبر أقلية مسلمة في أوروبا، تعلن بدورها حظر ارتداء العباءة بمدارسها، وهي التي لا تزال تحظر ارتداء الحجاب في مدارسها الحكومية منذ العام 2004، في انتهاك صارخ وتناقض كلي مع مفهوم الحرية الشخصية التي تعتبرها المجتمعات الديموقراطية قيمة أساسية.
ولكن ورغم هذا الحظر، فقد كشف تحقيق نشرته صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية في تموز العام الماضي أنه على الرغم من تطبيق قانون 2004 فإن هناك زيادة كبيرة في العباءات التي ترتديها الفتيات والقمصان الطويلة التي يرتديها الفتية بحيث تضاعفت في المدارس الثانوية خاصة عندما يحل شهر رمضان.
وما أصدق قول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
فإلى ماذا تريد فرنسا الوصول بعد حظرها الحجاب ومن ثم حظرها العباءة؟ وماذا بعد العباءة يا ترى؟!
يقول الباحث الحقوقي ريان فريشي: “حظر ارتداء العباءة في المدارس الحكومية قرار معاد للإسلام، لأنه يستهدف المسلمين فقط، فإذا كنت امرأة بيضاء وتعرفين بنفسك على أنك لست مسلمة فلن تواجهي مشاكل في الذهاب إلى المدرسة بملابس طويلة، ولكن بالرغم من الحظر إلا أن المزيد من النساء المسلمات يرتدين الحجاب ويتجه الشباب بشكل عام نحو التدين”.
لست بصدد الحديث عن النقاب وحكمه ومشروعيته، ولا عن الحجاب ووجوبه، فمشروعيته ووجوبه لا يجادل فيها إلا كل مغرض مثير للشبهات، والأمر متروك لعلمائنا وفقهائنا الأجلاء الأفاضل يوضحون هذه المسألة، فعندهم من الإجابات الشافية ما يروي الظمأ ويزيل كل شبهة، ولكن تثور في داخلي تساؤلات غضبى وددت لو تطير عبر الأثير تدق أسماع هؤلاء من يثيرون الزوابع والقضايا المفتعلة لأهداف لم تعد تخفى على أحد.
لماذا تمنع السلطات المصرية النقاب؟ وتحت أي ذريعة تسن لحظره القوانين لتطبيقه على الفتيات وتضع الشروط للبس الحجاب؟ وأي حق لها أو لغيرها في هذا التدخل الصارخ في لباس المرأة المسلمة والذي هو بمحض اختيارها وبرغبة وإرادة منها؟ ولماذا يقتصر المنع على الحجاب أو الجلباب أو النقاب بالذات؟ لماذا لا يتم التدخل بلباس آخر منتشر في المجتمعات يندى له الجبين وتتحطم قبالته كل قواعد الحياء والأخلاق ولماذا لا تسن القوانين لمنع وحظر هذه الملابس المخجلة؟
وبأي حق يصادر من الفتاة المسلمة حقها بالالتزام بالزي الذي يوصي به دينها؟ لماذا تثار مثل هذه القضايا كل فترة وفترة؟ وهل كل القضايا العالقة في مجتمعاتنا الإسلامية قد وجدت لها حلًا ولم يبق إلا لباس المرأة المسلمة يثار حوله النقاش والجدال ولماذا برزت هذه القضية الآن بالذات؟
وفي زخم هذا الضجيج المفتعل أصغيت بكل حواسي ومشاعري لعلي أسمع ولو همسة، ولو كلمة هنا أوهناك من رائدات الفكر النسوي التحرري اللواتي ملأن الأرض ضجيجًا وصخبًا وهن يتغنين بحرية المرأة، ولو من باب رفع العتب، ولو من باب الاستنكار على استحياء، نعم وددت لو يسمعن صوتهن ولو بكلمة واحدة يرفضن من خلالها التدخل في لباس المرأة المسلمة من باب الحرية الشخصية التي يطبلن ويزمرن ويحملن لوائها عقودًا من الزمن، لماذا تنخرس هذه الحرية عندما يتعلق الأمر بالمرأة المسلمة؟! أم أن المرأة حسب فكرهن حرة في التعري وليست حرة في الحشمة؟ شكرًا للمواقف التي تظهر حقيقة البشر، وشكرًا للحقيقة التي تُسقط كل الأقنعة لتظهر بلا فبركة ولا رتوش.
وأنا بدوري أتحدى كل واحدة منهن بل كل من نهج نهجهن، أن ينبس ببنت شفة اعتراضًا واستنكارًا لو كان الحديث عن حظر الملابس التي تخدش الأخلاق والفضيلة (ويا ويلو يا ظلام ليلو) من يتجرأ فقط وينتقد السفور أو هذه الملابس الفاضحة، فكيف لو سنت القوانين لمنع هذه الملابس؟ عندها ستقوم الدنيا ولا تقعد وستهب رياح الحرية الشخصية عبر المحيطات ومن وراء البحار تنسف هذه القوانين وربما تنسف واضعيها! لأن الحرية في عرف هؤلاء هي حرية السفور والتعري وأما الاحتشام والفضيلة فهو “جريمة وتهمة” وليس له مكان في أدبياتهم، إنها بلا شك حرب على القيم والمبادئ.
فلتحظروا ما شئتم ولتضيقوا ما رغبتم ولتسنوا القوانين والتشريعات ما بدى لكم، ولكن اعلموا أن الاسلام وشعائره لا تزداد في كل محنة إلا رسوخًا واتساعًا وارتفاعًا ونورًا وبهاء، والنتيجة بين أيديكم وفي مراكز دراساتكم، وتحقيقاتكم تصفعكم وتقول لكم لقد أثمرت جهودكم بل مكركم نتائج عكسية، فنور السلام يزداد توهجًا، إنها سفينة الإسلام تسير بعين الله ورعايته، تسير باسم الله مجراها ومرساها، تحمل على متنها الرحمة والخير والسلم والسلام لكل العالمين، أينما ترسي وتحط رحالها تعم خيراتها وتسطع أنوارها ويسود الكون بركاتها. إنه الإسلام عاداه ومكر له من هو أقوى وأبطش منكم ولكنه نفق ورماه التاريخ في مزابله وبقي الإسلام، وستذهبون أنتم وسيبقى الإسلام، إنها إرادة المولى عز وجل فوق إرادتكم وقدره النافذ رغم مكركم “يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا ان يتم نوره”.