ماذا تقول لنا هبّة النفق عام 1996؟
ساهر غزاوي
يُعنون إيلان بابه، وهو من المؤرخين الإسرائيليين الجُدد، الفصل السابع من كتابه (الفلسطينيون المنسيون) الذي يتحدث فيه عن هبّة القدس والأقصى بـ “زلزال عام 2000 وارتداداته”، فاستخدام كلمة “زلزال” من قبل شخص مثل المؤرخ بابه لم تأتِ عبثًا ولا مجرد حشو للكلام بلا فائدة، إنما لما تحمله هذه الكلمة من معان ودلالات وإسقاطات تلقي بظلالها على مسار حقيقة الصراع الدائرة على أرض فلسطين. وليس عبثًا أيضًا أن ينقل على لسان كتّاب المقالات الصحفية ومحرري البرامج الإخبارية الإذاعية والتلفزيونية الإسرائيليين عبارة ترددت كثيرًا في ذلك الوقت وهي: “عدنا إلى العام 1948”- بما معناه القفز على أكثر من نصف قرن من المحاولات الإسرائيلية الحثيثة الفاشلة لأسرلة فلسطينيي الداخل وسلخهم من انتمائهم وهويتهم وثوابتهم في بُعدها الفلسطيني والعربي والإسلامي والعودة إلى البداية.
إنَّ هبّة القدس والأقصى عام 2000 التي نحيي في هذه الأيام ذكراها الـ 23، كانت البوصلة التي أعادت الالتحام للشعب الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو المشؤومة التي عمدت إلى تهميش فلسطينيي الداخل وعزلهم عن الشعب الفلسطيني وقضيته، بَيْدَ أنّ “هبّة النفق” التي اندلعت في 25 سبتمبر/أيلول 1996 احتجاجًا على حفر سلطات الاحتلال الإسرائيلية للنفق الغربي أسفل المسجد الأقصى المبارك الذي افتتحه رئيس بلدية القدس -آنذاك- إيهود أولمرت بإيعاز من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، شكلت لغاية اليوم معادلة ردع مفادها أنّ كافة موجات المواجهة الشاملة في فلسطين، مرتبطة باعتداءات الاحتلال على المسجد الأقصى، إذ بات جليًا أن أي اعتداء على المسجد الأقصى وتغول إسرائيلي في القدس وتنكيل بالمقدسيين يشعل الجماهير الفلسطينية مجددًا وتنتفض بوجه المؤسسة الإسرائيلية.
في الواقع، إن “هبّة النفق” عام 1996 التي تتوسط الانتفاضة الأولى التي بدأت أواخر عام 1987 والانتفاضة الثانية التي بدأت عام 2000، تحمل العديد من الدلالات التي كان لها التأثير المباشر في إعادة القضية الفلسطينية للواجهة من جديد وإلى مكانها الطبيعي والتأكيد على أن قضية القدس والمسجد الأقصى هي بوصلة الأمة وجوهر الصراع على أرض فلسطين وهي القضية الحاضرة في والوجدان والتي تجعل من أنظار الشعوب العربية والإسلامية مشدودة إليها بالرغم من محاولات حرف بوصلة هذه الشعوب عن وجهتها الحقيقية.
من أهم دلالات هبّة النفق أنها كانت بمثابة الهبّة الأولى والمواجهة المفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي بعد اتفاقية “أوسلو”، إذ توحدت جميع فئات الشعب الفلسطيني للتصدي لقوات الاحتلال في مختلف مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة واستمرت عدة أسابيع، ارتقى على إثرها 63 فلسطينيًا، وأصيب أكثر من 1600 فلسطيني، حتى أن أفراد وضباط أجهزة أمن السلطة الفلسطينية انخرطوا يومها بالمواجهات مع قوات الاحتلال بالرصاص، ما تسبب بسقوط العشرات من جنود وضباط الاحتلال بين قتيل وجريح.
يمكن القول إن “هبّة النفق” عام 1996 كانت بمثابة الحدث التحضيري لهبّة القدس والأقصى و “زلزال عام 2000 وارتداداته” بحسب وصف إيلان بابيه، فقد نجحت هبّة النفق كما بقية الهبّات التي تلتها أو سبقتها في حشد الشارع الفلسطيني تجاه ما يجري في القدس وفرض كلمته على الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي فشل فيه “أبطال” المفاوضات والاتفاقيات السرية والعلنية بفرض كلمتهم وشروطهم على الإسرائيليين.
هبّة النفق ومسبباتها التي شكلت خطرًا حقيقيًا على بُنية المسجد الأقصى المبارك وأساساته وإلى جانب تصاعد حدَّة الغضب في صفوف الشعب الفلسطيني، كانت هي السبب المباشر لإطلاق مهرجان “الأقصى في خطر” في نسخته الأولى في 11/10/1996. هذا المهرجان الذي درجت على تنظيمه الحركة الإسلامية (المحظورة إسرائيليًا من 2015) على مدار عشرين عامًا، ساهم بشكل كبير في رفع الوعي تجاه قضية القدس والمسجد الأقصى المباركين، ذلك المهرجان الذي كان يُنظم في شهر أيلول/ سبتمبر من كل عام في ملعب السلام في مدينة أم الفحم، وقد ارتبط بمسيرة نضال الشعب الفلسطيني وأصبح على مرّ السنين، منبرًا للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى وفضح كل المخططات الإسرائيلية التي تستهدفهما.
تقول لنا هبّة النفق عام 1996 إنه بالرغم من أن القدس والأقصى هما العنوان الأبرز لأي عامل تثوير وتفجير، فإن الاحتلال الإسرائيلي يكرر أخطاءه فيما يخصهما ولا يتعظ من دورس الماضي والحاضر، وفي الوقت الذي لا يزال فيه الاحتلال جاثمًا على القدس والأقصى، سنبقى أمام موجات من الهبّات القصيرة أو الطويلة أو الانتفاضات المتكررة إحقاقًا للحق الفلسطيني في أرضه ووطنه ومقدساته، وسيظل المسجد الأقصى خصوصًا والقدس عمومًا بوصلة الشعب الفلسطيني ومفجر غضبه وانتفاضاته إلى أن يحسم الصراع على أرض فلسطين ويعود الحق لأصحابه.