لغز الحديث عن القيم
الشيخ رائد صلاح
منذ أن جدّدتُ العهد مع مسيرة لجان افشاء السلام المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا سمعت نصائح من رجال اصلاح أفنوا عشرات السنوات من أعمارهم في إصلاح ذات البين على امتداد الداخل الفلسطيني، ومن اهل اختصاص درسوا في الجامعات حتى نالوا اعلى الشهادات في موضوع (العنف والجريمة، الأسباب والحلول)، وكلهم أكدوا لي أنَّ الحل الأساس الذي يجب أن تعتمد عليه لجان افشاء السلام هو العودة بمجتمعنا إلى قيمه فسنحاصر العنف والجريمة، وسيبقى وجودهما شاذا استثنائيا في أضيق مساحة، وقالوا لي: إنَّ هذا الحل الأساس يتطلب من لجان افشاء السلام أن تعمل لسنوات طويلة بصبر جميل ونفس طويل وعمل متواصل، وسترى ثمار جهدها بعد ذلك. وقد بدأتُ أسمع الكثير من مجتمعنا- رجالا ونساء- يدندنون على هذا الحل الأساس ويطالبون بالاعتماد عليه كمطلب لا بد منه لإنقاذ مجتمعنا من فاجعة العنف والجريمة!! وهكذا أصبحت أسمع الكثير يدعو للعودة بجمعتنا إلى قيمنا، في لجنة المتابعة العليا، وعبر الحوارات الإعلامية التي أسمعها بين الحين والآخر في شتى وسائل الاعلام، بما في ذلك الجمعيات النسوية التي بدأت تؤكد هذا المطلب نفسه، وبدأت تحثّ على العودة إلى القيم وهذا يعني أننا مطالبون بالعمل لسنوات طويلة حتى نعيد مجتمعنا إلى قيمه، وقد يتطلب الأمر أكثر من عشرة سنوات، بل قد يتطلب الأمر أكثر من عشرين سنة، فهذا المصلح الشيخ عبد القادر الجيلاني بذل أربعين سنة طامعا بإعادة المجتمع المسلم إلى قيمه، وهذا يحتاج إلى نوعية خاصة من العاملين والعاملات في لجان إفشاء السلام يملكون الاستعداد سلفا للعمل المتواصل المستديم على افشاء السلام وإن احتاج الأمر إلى سنوات طويلة بشرط عدم استعجال احراز النتائج، ففاجعة العنف والجريمة ليست مجرد شوكة أصابت مجتمعنا والمطلوب قلعها خلال دقائق أو ساعات، بل هي فاجعة استفحلت في مجتمعنا ونخرت في تفاصيل حياته وتغلغلت في تفكيره وسلوكه ونمط حياته، وهذا يعني اننا مطالبون بإعادة هندسة تفكير مجتمعنا من جديد مما يساعدنا على إعادة هندسة سلوكه ونمط حياته بما يتوافق مع قيمنا، وهي مهمة صعبة وثقيلة وشائكة، ولن تتحقق بمجرد الكتابة عنها أو الحديث عنها أو التنويه لها عبر المؤتمرات واللجان وشتى وسائل الاعلام، والطامة الكبرى ستكون عندما يطالب البعض منا من مجتمعنا أن يعود إلى قيمه وهم لا يتحلون بهذه القيم، أو وهم يدعون إلى نقيضها في أجندات عملهم، وهذا ما يجعل من هذه المطالبة لمجتمعنا أن يعود إلى قيمه في مثل هذه الحالة مجرد ثرثرة أو سفسطة أو ضريبة كلامية أو ضحك على الذقون أو استخفاف بنا ورقص على جراحنا الناعبة دمًا وألمًا جراء فاجعة العنف والجريمة!! وعلى سبيل المثال تجرأت بعض الأصوات المصادمة لقيمنا ودعت علانية فيما مضى إلى حرية الزنا بادّعاء أن المرأة تملك جسدها، وهي جملة ملغومة تعني أنها ما دامت تملك جسدها فلها أن تتصرف في جسدها كما تشاء، وما دامت تملك أن تتصرف في جسدها كما تشاء- وفق هذا الادّعاء- فلها أن تمارس الزنا !! فهل هناك مصادمة لقيمنا أقبح من هذه الدعوة إلى حرية الزنا؟! ومع ذلك فإن الأصوات التي تدعو إلى حرية الزنا باتت تدعو مجتمعنا اليوم أن يعود إلى قيمه، فكيف ذلك؟؟ فهل يلتقي البناء والهدم في الفعل الواحد وفي الوقت الواحد وهل تلتقي الظلمة والنور في المكان الواحد وفي الوقت الواحد؟ وهل تلتقي الدعوة إلى التحلي بالقيم وإلى نبذها في الصوت الواحد وفي الوقت الواحد؟ ولذلك فإن مجرد دعوة مجتمعنا للعودة إلى قيمه لن يغير في مجتمعنا قيد أنملة، ما دامت هذه الدعوة متناقضة، تحاول أن تجمع- عبثا ووهما- بين الدعوة إلى الالتزام بالقيم والتحلل منها!! لا بل أن بعض الأصوات المصادمة لقيمنا راحت تدعو إلى تقبل الشذوذ الجنسي والتحول الجنسي كنمط حياة في مسيرة مجمعتنا، وراحت تدعو مجتمعنا في الوقت نفسه للعودة إلى قيمه، وراحت تُنظّر وتقول: إنَّ العودة بمجتمعنا إلى قيمه هو الحل الجذري لفاجعة العنف والجريمة التي باتت تعصف بمجمعتنا، فكيف يتوافق البناء والهدم في هذا الحال الصارخ بالتناقض إلى حد العبث؟! ثمَّ يلفت الانتباه بعض الأصوات التي كانت تدعو المرأة من مجتمعنا قبل عقود من الزمن أن تكسر قيود البيت، وأن تتحرر من وظيفة إعداد الطعام للأسرة ورعاية أفرادها، وأن تخرج إلى ميدان حياة لا حدود لها خارج البيت، ثمَّ وإذ بهذه الأصوات راحت تدعو مجتمعنا للحفاظ على تربية الأولاد وتماسك البيت واستقرار الأسرة والتنشئة على القيم وتحصين الأبناء والبنات من كل خطر يحدق بهم!! فكيف لهذه الأصوات أن تكون محل ثقة واحترام وتقدير، وهي تناقض نفسها، وتبيح لها الوقوع في هذا الموقف المعيب المستهجن المرفوض؟ ففي الوقت الذي تؤدي محصلة ما تدعو إليه إلى هدم البيت والأسرة، فإنها باتت تدعو في الوقت ذاته إلى صيانه البيت والاسرة، وفي الوقت الذي تؤدي محصلة ما تدعو إليه إلى ضياع الأبناء والبنات، فإنها باتت تدعو في الوقت ذاته إلى تنشئتهم على القيم!! كيف ذلك؟! وهل يستوي الأحياء والأموات أم هل يستوي الظل والحرور؟ أم هل يستوي الضلال والهدى؟ ثمَّ يلفت الانتباه بعض الأصوات التي شرعنت طوال الوقت للالتحاق بركب (عتيدنا وأخواتها) ثمَّ راحت تدعو اليوم للتزود بالمناعة الوطنية؟ فهل هذا يعقل؟ هل يعقل الدعوة للتحلل من مستحقات المناعة الوطنية والدعوة للتحصن بالمناعة الوطنية في الوقت نفسه؟ وهل يعقل تبرير القبول بدعم مالي بالملايين من صناديق دعم صهيونية أمريكية والدعوة للقبض على الثوابت الإسلامية العروبية الفلسطينية؟! لا يعقل أن يتجرأ البعض منا على وأد القيم ثم يحتفل (بعيد ميلادها) في الوقت نفسه؟ ولا يعقل أن يتجرأ البعض منا على وأد شروط نهضة البيت والاسرة ويستغيث بهذه الشروط في الوقت نفسه كي تنقذنا من فاجعة العنف والجريمة؟ ولا يعقل أن يتجرأ البعض منا على وأد المناعة الوطنية ثمّ يواصل التغني بها بأسلوب الأوف والميجنا وعلى دلعونة ويا زريف الطويل وجفرا ويا هالربع؟ نعم نحن بأمس الحاجة للتمسك بقيمنا وتحصين بيوتنا والوفاء لمناعتنا الوطنية فكرا وسلوكا وشعارا ثم دعوة مجتمعنا للعودة إلى القيم، وتحصين البيوت والوفاء للمناعة الوطنية!! وإلا فإن مجرد اتقان زخرف القول عن هذه الأصول لا يسمن ولا يغني من جوع، وكم صدق المصلح الشيخ عبد القادر الجيلاني عندما قال: لا يقود الناس أعمى إنما يقود الناس بصير!! ولا تنفع المكابرة، ولا يوجد شيء اسمه قيم اذا كانت هذه القيم مقطوعة عن مخافة الله تعالى وعن الدين القيّم حيث ان الحديث عن قيم مقطوعة عن مخافة الله تعالى وعن الدين القيّم هو كالحديث عن إمكانية نمو شجرة مورقة مثمرة بلا ساق وجذور، وهو كالحديث عن إمكانية حياة فصيل أسماك في اليابسة بلا ماء، وهو كالحديث عن إمكانية جني عنب طيب المذاق يسرّ الناظرين من حقل أشواك جافة، وإلا فإن أخشى ما أخشاه أن تتورط قيادة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني بآفة خداعة، وتكريس آفة العنف فيه دون أن تقصد ذلك، فهل من مدكر؟