حتى بعد هدم بيوتهم.. التشريد من القدس هاجسٌ يؤرق المقدسيين
لم يكن هدم بيت المقدسي محمود صالحية سوى “حجر زاوية” في معاناة جديدة مع التشرد، بدأت فصولها بعدم قدرته على استئجار بيتٍ في الحي الذي تربى فيه “بيت حنينا” يناسب إمكاناته المادية مع الغلاء الفاحش في أسعار العقارات في القدس المحتلة.
فقبل عامين أسدل الاحتلال الستار على نزاعٍ قضائي خاضه صالحية محاولاً الحفاظ على الأرض التي ترعرع فيها بعد طرده وعائلته من غرب القدس المحتلة عام 1948م.
يقول صالحية: “باغتتنا شرطة بلدية القدس فجراً، وهدمت منزلنا على ما فيه من أثاث بعدما عجزوا عن إقناعي بتركه بكل وسائل الترغيب والترهيب”.
ولثلاثة عقود صمد صالحية أمام حرب نفسية شرسة، متنقلاً من محكمة لأخرى، محاولاً وقف أمر الهدم بحق بيته ومشتله، ورفض كل الإغراءات بمبالغ مالية باهظة لترك أرضه التي هي “وقفٌ إسلامي” لا يحق لكائن مَنْ كان أنْ يتنازل عنها.
ويضيف: “عزائي الوحيد أنني لم أفرط أو أخنْ ولم أخرج من أرضي إلا مرغماً، بعد أنْ تخلى القريب والغريب عن أهل القدس وتركوهم وحدهم يصارعون محاكم هي أبعد ما تكون عن العدل والقضاء، فتحكمها عصابة المستوطنين، ولا تحكم إلا بما يريده الاحتلال”.
عشرات الأوراق هي فقط ما تبقى لـ “صالحية” من “الجري المتواصل” في أروقة المحاكم التي ضربت بحق الفلسطينيين في أرضهم عرض الحائط، وعندما عجزت عن استصدار حكمٍ قضائي ضده، أُخرج وأسرته من منزلهم عنوة لا يملكون سوى ملابسهم، وسارعت في هدمه على ما فيه.
شعور بالعجز
حالة صالحية تشبه عشرات الفلسطينيين الذين باتوا عاجزين عن تأمين مساكن لهم مع تضاعف أعداد المقدسيين الذين فقدوا بيوتهم ويبحثون عن بيوتٍ أخرى للإيجار تحول دون اضطرارهم لترك المدينة والرحيل للضفة الغربية كما يريد الاحتلال.
إذ تقف الأسعار الخيالية للإيجارات والدخل المحدود عائقاً أمام قدرة صالحية على البقاء في “بيت حنينا”، حيث يبلغ إيجار المنزل هناك قرابة 5000 شيقل شهرياً، وإذا ما أضفيت له رسوم الكهرباء والماء وضريبة الأرنونا فإن المبلغ لن يقل عن 7000 شيقل شهرياً، مبيناً أن دخله الشهري لا يتجاوز 8000 شيقل، “وهذا يعني أن راتبي كله سيذهب للإيجار”.
وصالحية أب لخمسة أبناء، ويقول إن تمسكه بالبقاء في “بيت حنينا” لن يمكنه من إعالة أطفاله، “فاضطررت للانتقال إلى وادي الجوز بحثاً عن بيت إيجاره أقل، وللأسف فإن العمارة التي أستأجر فيها حالياً تضم 16 شقة سكنية معرضة هي الأخرى للهدم، حيث أمهل الاحتلال سكانها أربعة أشهر قبل هدمها”.
ويبدي صالحية أسفه للحالة التي يعيشها المقدسيون، فالهدم والتشريد يلاحقان السكان من مكانٍ لآخر، “فكوني عايشتُ هذه التجربة المريرة فإنني أشفقُ على أي مقدسيٍ قد يكون عرضةً لهذا السيناريو المؤلم، وأشفق على نفسي لكوني معرضًا للمرة الثانية للتشريد مجدداً، وأنا أعافرُ كي لا أُضطر للانتقال للضفة الغربية، فهو هدف الاحتلال الأساسي من هدم بيوت المقدسيين”.
ويتابع: “فقدتُ ستة دونمات من الأرض يوجد فيها بيتي وبيت شقيقتي، كنا ستة عشر فرداً هناك، ومورد رزقي، حيث كان لديّ مشتلي الخاص، لم يتبقَ شيءٌ مما كنتُ أملكه، لقد دفعت مئات الآلاف من الشواكل كي أتجنب هذا السيناريو دون جدوى”.
ويمضي بالقول: “اليوم يريدونني أن أدفع 150 مليون شيقل كي يسمحوا لي برفع قضية في المحكمة للحصول على تعويضٍ عن الأضرار المادية التي تكبدتها. أولاً أنا لا أملكُ هذا المبلغ، وثانياً أنا واثقٌ تمام الثقة أن قضاءهم لن ينصفني وأنني سأخسرُ هذا المبلغ للأبد”.
سيناريو متكرر
يتهدد هذا السيناريو الشاب أحمد السعو الذي فقد منزله الذي كان يُؤويه هو وزوجته وطفليْه في “بيت حنينا” بعدما لم ينصفه قضاء الاحتلال، ما اضطره للجوء لبيت والده في الحي ذاته، لكنه يخشى تكرار سيناريو الهدم مجدداً!
فبيت والده جميل السعو مهددٌ بالهدم منذ ما يزيد على ربع قرن أنهكت فيها الضرائب قواه، إذ يدفع في كل عام قرابة 75 ألف شيقل غرامة لتأخير موعد الهدم.
يقول بأسى: “أنا عامل بالأجرة، وبالكاد يكفي الدخل الذي أحصل عليه مستلزمات الحياة، ولكن الاحتلال لا يتركنا في حالنا، ويريد تشريدنا من القدس بكل الطرق”.
لم تستسلم عائلة “السعو” لأوامر الهدم الإسرائيلية إيماناً بأنها “صاحبة الحق”، لكنها وجدت نفسها أمام قضاء يرتهن لحكومة يمينية استيطانية، تغلق الأبواب واحداً تلو الآخر أمام أي حلول ممكنة وقابلة للتنفيذ، ويثقل كاهلهم بضرائب تقصم ظهورهم المثقلة بغلاء المعيشة في المدينة المحتلة.
ويقول أحمد: “رغم كل شيء تمسكنا ببيوتنا وأرضنا، اقتطعنا من قوت أبنائنا لندفع مخالفاتهم الباهظة، لكن كل ذلك لم يشفع لنا ليتركونا في حالنا، بل نفذوا أوامر الهدم، فقد هدموا أحلامي في بيتٍ كان يُؤوي أسرتي الصغيرة”.
ويتابع: “هذا البيت فرشته بعد جهدٍ جهيد في ظل المخالفات التي نسددها شهرياً لبلدية الاحتلال في القدس، واليوم أعيش وأنا وأسرتي وأهلي سيناريو الخوف من أن ينفذوا أمر الهدم في بيت والدي، حينها لا ندري أين يمكن أن نذهب”.
ووفق معطيات نشرها مركز أبحاث الأراضي، فإن قوات الاحتلال الإسرائيلي هدمت نحو 12 ألف منزل، منها 7440 مسكنا في شرقي القدس المحتلة فقط، وذلك خلال الفترة من 1967 حتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2021. وهجر بفعل سياسة الهدم هذه حوالي 73 ألف فلسطيني، منهم 47 ألفًا و220 مواطنًا مقدسيًا.
أما منذ النكبة عام 1948، فذكر المركز أن سلطات الاحتلال هدمت ما مجموعه 172 ألفًا و900 مسكن فلسطيني، وهجَّرت مليونًا و324 ألف مواطن فلسطيني من أراضي فلسطين التاريخية، كل ذلك من أجل جلب وتوطين أكثر من 5 ملايين مهاجر يهودي.