لماذا جنــــــــين؟
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لا يكاد يمر أسبوع إلا ويقتحم جيش الاحتلال ومعه الأجهزة الأمنية مخيم جنين، وكأنَّ بين المخيم والاحتلال كرًا وفرًا لا يتوقفان وكأن أحدهما بات يخدم الآخر في أجنداتهما الداخلية والخارجية.
كل مُراقب للسياسات الإسرائيلية الداخلية مدركٌ لحجم الخلل والشقاق الذي حطًّ رحاله في المجتمع الإسرائيلي في ظل حكومة يمينية دينية متشددة تسعى لخلق واقع سياسي يعمل على فرض رؤيته وأجنداته على الواقعين الاجتماعي- السياسي والقضائي وما يتناسل عنهما من تداعيات على كافة شؤون الحياة والحكم، وهذا الشقاق لم يتوقف داخل المؤسسة الحاكمة أو المجتمع الإسرائيلي، بل تداعى إلى المجموعات اليهودية في العالم خاصة في الولايات المتحدة، الحامية الاستراتيجي للكيان والمجتمع. يقابل هذا واقع فلسطيني مهلهل، محليًا وخارجيًا، وترهل في العملين السياسي والمُقاوم ولكل من سلطتي رام الله وغزة، وكذلك للفصائل حساباتها الداخلية والخارجية وباتت تحت مؤثرات كبيرة دولية بحكم تلكم العلاقات وما لها من علاقات تمويل ودعم لكلا المجموعتين الحاكمتين.
في ظل هذه الوضعية تتداخل الحسابات الداخلية لكل من الفعلين السياسي والمقاوم فلسطينيًا، وأجنداته الداخلية إسرائيليًا وينتج عن هذه التداخلات التي تصل في بعض اللحظات حد التناقض لحظات صدام تدفع المسؤولين وأرباب القرار إلى التفكير مليًا في المآلات الناجمة عن هذه التناقضات والتصدعات الداخلية. وينجم عن هذه الوضعية السائلة فلسطينيًا وإسرائيليًا ردود أفعال داخلية قد تقوض العروات (ما يستمسك به) المؤسسة للمجتمعين، ففي حين يظهر عيانًا حجم التناقضات الداخلية إسرائيليًا وكيف تؤثر على الحالة والمزاج الأمني والمجتمعي، فأنَّ تأبيد الخلاف البين فلسطيني خلق وقائع فلسطينية مجتمعيًا وأمنيًا كان من مفرزاته الفعل المقاوم فلسطينيًا ومواجهته بيد سلطة رام الله في مفارقة لم تشهدها حالات التحرر المعاصر.
هذه المفارقة التي دفعت المقاومة لتعزيز امكانياتها وفعلها المقاوم من جهة وكشفت الستار عن حجم الكارثة التي نزلت بالشعب الفلسطيني من جهة أخرى، شكلت تحديًا صارخًا لسلطة رام الله لتحقيق فعل مقاوم بعد أن نجحت هذه السلطة بعد الحسم العسكري عام 2007 (الأحداث التي وقعت بين حماس وفتح في قطاع غزة بين 10و15 من يونيو\حزيران من عام 2007 وإطاحة حركة حماس بفتح وطردها من السلطة في غزة وسقط في هذه الحرب الداخلية وفقًا للصليب الأحمر 116 فلسطينيًا و550 جريح وهو ما أسفر عن كيانين فلسطينيين، كيان في رام الله معترف به دوليًا وآخر في غزة محاصر وغير معترف به ونجم عن هذه الوضعية حل حكومة الوحدة وتقسيم الأراضي الفلسطينية وخضوعهما لنظامين مختلفين. رام الله التزمت في الخطوط السياسية التي تمليها الأسرة الدولية وفقًا لاتفاقيات أوسلو، وغزة التي اختارت المقاومة وخاضت أربع حروب ضروس مع الاحتلال الاسرائيلي) في تجريف المقاومة في الضفة الغربية وحدث تعاون أمني غير مسبوق بين رام الله ومنظومة دايتون والاحتلال الإسرائيلي تمَّ بموجبه مصادرة كل ما له صلة بحركة حماس، مقاومة وفعلًا مدنيًا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر مصادرة لجان الزكاة وجمعيات خيرية ومستشفيات وإلحاقها بسلطة رام الله والوزارات ذات الصلة ومحاربة كل من له صلة بحماس مجتمعيًا ووظيفيًا.
لماذا جنين؟
في ظل ما أشرت إليه يأتي السؤال لماذا جنين التي مرّغ أبناؤها وجه الاحتلال بالتراب في حرب عام 2002 والتي امتدت من 1-14 نيسان/ابريل واستشهد خلالها 58 مقاومًا وقتل 23 جنديًا باعتراف رسمي من جيش الاحتلال. ويذهب كاتب هذه السطور إلى أن هذه المعركة الضروس وضعت المسمار الأول في نعش المسيرة السياسية لشارون وشكلت حجر الزاوية في تفكيره الاستراتيجي الخروج من غزة وشمال الضفة الغربية عام 2005، وكشفت عن عمق صلابة موقف المخيم المقاوم والذي باتت أسطورته عام 2002 أيقونة فلسطينية وقلقًا إسرائيليًا استحال إلى كابوس في السنوات الثلاث الأخيرة بعد أن عاد الفعل المقاوم إلى المخيم وأدى إلى وجع رأس شديد ومزمن لسلطة رام الله حيث تلاقت المصلحتان على وقف واجتثاث هذه المقاومة والعودة بالمخيم إلى سنوات ما بعد حرب 2002.
كما كشفت السنوات التي تلت ذلك عمق الأزمة الداخلية بين المقاومة ورام الله داخل الضفة الغربية. وعن بؤس العلاقة بين المخيم وسلطة رام الله من جهة وجدل العلاقة مع المقاومة من جهة أخرى ودور رام الله في خدمة أجندات الاحتلال لنصل إلى لحظة حكومة يطالب وزراؤها علنًا بضم المناطق “ج” من الضفة الغربية وفقًا لما تراه الكتلة اليمينية الدينية الصهيونية والقومية، وفرض واقع تعبدي واضح المعالم في المسجد الأقصى المُبارك وضرب البنى التحتية للمقاومة ولكل فعل مدني يمكن أن يقلق المؤسسة الاحتلالية وأفعالها داخل الضفة الغربية.
ثمة أجوبة لماذا جنين ولماذا يصر الاحتلال على مواجهة مخيم لا يملك أبناؤه إلا القليل من أدوات المقاومة مقارنة بما يملكه الاحتلال، بل وما تملكه سلطة رام الله من أدوات قمع داخلية وأجهزة أمنية اشتهرت بقمعها السياسي الداخلي.
الأجوبة ذات علاقة بالوضعية الاستراتيجية لكل من سلطة رام الله والاحتلال مع تفاوت بيّن في المواقف، ففي حين نجح الاحتلال منذ حكومة فياض وإلى هذه اللحظات في إغراق المجتمع الفلسطيني بسياسات اقتصادية داخلية أغرقته في المديونية البنكية ونقلته من حيوات اقتصادية مجتمعية عضوية وتضامنية إلى مجتمع يعتمد المعونات والزبائنية (الزبائنية: لها مرادفات مثل: المحسوبية، الوَلائية، الانخراطية، الاستزلام، واصطلاحًا تعني من ضمن ما تعنيه تلكم السلسلة المعقدة من الروابط بين الرعاة السياسيين أو الرؤساء وعملائهم أو أتباعهم، وهي شكل من أشكال الفساد وتشكل مشكلة حقيقية ومرضًا ينخر في جسد الديموقراطيات المعاصرة، إذ يعتبرها “مالك بن نبي” ظاهرة مَرضية في المجتمعات وبيانًا على ضعف الديموقراطية نظامًا ومنهجًا وسلوكًا اجتماعيًا ومجتمعيًا، وقد اختلفت وجهات النظر حول آثارها فاليمين يراها أمرًا طبيعيًا يجب توظيفه لحسن تسيير المجتمع، واليسار يحاربها عالميًا ويتعايش معها محليًا. والزبائنية آثارها مدمِّرة للاقتصاد ومحبطة لتطلعات المساواة في الفرص ومحددات المنافسة، ومعرقلة لطموح التنمية المستدامة- للتوسع انظر: إيمان بن عامر، الموسوعة السياسية/ الزبونية السياسية على الشبكة العنكبوتية).
فإن مخيم جنين بقي تحت ربقة الفقر والفاقة وعبثًا حاول أبناء المخيم الخروج من ربقته ولم يلق المخيم رغم الآلام التي عاشها ولا يزال، لا العناية المطلوبة والمفترض أن تقدمها سلطة رام الله ولا من النخب المجتمعية الاقتصادية التي ترعرعت في ظل الزبائنية التي تخلقت في عصر الدايتونية العباسية “نسبة لمحمود عباس” وتعزيز القبضة الأمنية الفلسطينية بناء على نظرية دايتون في خلق واقع أمني جديد بعد الانتفاضة الثانية وانتهاء عصر عرفات، بل تعززت حالة من القهر الداخلي انداحت مجتمعيًا على معظم ساكنة المخيم وما شابهها من مخيمات أُخرى في الضفة الغربية جعلتها أرضية خصبة لقبول العمل المقاوم الذي ذوت حالتين متناقضتين للوهلة الأولى، إن أبناء المخيم بحكم أنهم اللاجئون، هم أول من عليه مواصلة مسيرة العودة، وأنهم الطبقة الأكثر فقرًا ومن ضرورات الحياة الاحتجاج إلى حجج الثورة على النظام السياسي الزبائني فكان ابن المخيم مقاومًا مرتين، مرة الاحتلال الخارجي ومرة الظلم الداخلي.
استراتيجيًا يتحسب الاحتلال من عودة جذوة المقاومة إلى الضفة الغربية باعتبارها لا تزال أراض محتلة وفقًا للقاموس السياسي الدولي بما في ذلك الأوروبي والأمريكي وهو ما يخلق حالة من القبول والمعقولية في مواجهة الاحتلال وخاصة المستوطنات والمستوطنين ويهيئ الأرضية لانتفاضة ثالثة يكون وقودها المستوطنين والمستوطنات، وهو ما سيلقى تفهمًا دوليًا وتأييدًا شعبيًا عالميًا خاصة وأن إسرائيل عند الكثير من المنظمات السياسية الأوروبية دولة احتلال، وبقاء جذوة المقاومة حية في مخيم جنين سيعني، إسرائيليًا وأوسلويًا، بالضرورة تمددها إلى خارج المخيم وقد حدث مثل هذا الأمر في السنة الفائتة وهو ما عزز استراتيجيًا لدى الاحتلال وسلطة رام الله ضرورة خنق المقاومة في مهدها بغض النظر عن التكاليف التي سيدفعها المواطن العادي في المخيم، وما سيدفعها بالضرورة برسم المقاومة، الجندي الإسرائيلي الذي أبدع الاحتلال وسائل وتقنيات لحفظ حياته، ونجح دوليًا في إحالته إلى حالة أخلاقية تقبلتها الأسرة الدولية بقبول حسن إذ القتل يكون للمقاومين ولا يمس المدنيين إلا قليلًا.
وفي ذات السياق استمرار المقاومة يعني تعزيز قدراتها الداخلية وانتقالها التدريجي من العفوية والاعتباطية ومشهدية الفرجة -أي ما نراه على صفحات التواصل متعلقًا بالمقاومين والشهداء- إلى العمل المنظم الذي يبني على تجاربه والذي يملك قابلية التلقي من الآخرين أساليب وتقنيات جديدة خاصة المقاومة بشقيها حماس والجهاد وما باتت تملكه من أدوات وتقنيات سيكون بالتالي تأثيرها أضعاف أضعاف ما تلحقه مقاومة غزة من أثر على الداخل الإسرائيلي.
فلسطينيًا، تتحسب رام الله من فلتان الوضع الداخلي لصالح مقاومة سائلة تنتقل بفعل أدوات التواصل والذكاء الاصطناعي إلى عموم مخيمات الضفة الغربية والقرى الواقعة في المنطقة “ج” ذات الحساسية الإسرائيلية حيث المستوطنات وقد باتت ساكنة القرى أكثر إدراكًا لخطر الاستيطان والمستوطنين وضحالة الفعل المدني المقاوم الذي يستجدي الاتحاد الأوروبي ويعمل على أنسنة المقاومة وفقا للمقاييس الأوروبية الغربية الليبرالية وليس أنسنتها وفقًا للمعيار التحرري.
وبالتالي أكثر تماهيًا مع المقاومة في المخيمات وهو ما يرشح مستقبلًا دخول القرية الفلسطينية على خط المقاومة وبقوة وهو ما سيؤسس لوضعيتين داخل الضفة الغربية ستنفجر في وجه منظومة أوسلو، الأولى الضغط على المدن الفلسطينية لدخول خط المقاومة وهو ما سيعني عودة شاملة للانتفاضة لكن بتقنيات وتعزيزات فلسطينية متجددة وخلاقة تضع الاحتلال والسلطة في مأزق كبير يذكرنا بانتفاضة العراقيين السنة على الأمريكيين وما كان من تفاعل بين المكونات المجتمعية السنية في الريف والمدينة، وهذا التفاعل سيؤدي إلى الوضعية التالية وخلاصتها المؤسسة الأمنية الفلسطينية بكوادرها، وكيف سيكون موقفها النهائي وأين ستصطف وكلنا يتذكر هبة النفق عام 1996 (هبّة شعبية فلسطينية أطلق عليها “هبّة النفق” اندلعت في 25 سبتمبر/ أيلول 1996 احتجاجًا على حفر وافتتاح سلطات الاحتلال الإسرائيلية للنفق الغربي أسفل المسجد الأقصى المبارك وقد توحد الشعب الفلسطيني وتصدى للاحتلال وكان للقوى الأمنية الفلسطينية دور رائد). وهذه الوضعية إن تمت ستنهي فعليًا سلطة رام الله وستدفع نحو توحيد متجدد للكل الفلسطيني تحت شعار المقاومة والتحرير، خاصة وأن حركة حماس باتت أدبياتها السياسية تتحدث عن دولة فلسطينية قابلة للحياة في حدود عام 1967 بغض النظر عن الفلسفة والتنظير لهذه الحيثية، مما يعني أن مخيم جنين بفعله المقاوم يحمل بذور دفع القوى الفلسطينية المُتصارعة نحو وحدة شاملة يكون ثمنها عملًا تحريريًا مقاومًا أخلاقيًا وسياسيًا وامنيًا ينهي وجود سلطتين ويوحد الجهود وهذا ما يخيف الاحتلال والسلطة ومن يقف خلفهما من عرب وعجم.
يتحسب الاحتلال من أن استمرار المقاومة في جنين سيكون له ارتداد داخلي على المجتمع الإسرائيلي الذي بات منقسمًا على نفسه انقسامًا أفقيًا وعموديًا ويحمل هذا الانقسام بذور تصدعات داخلية اتجاه مجمل الفعل السياسي، ومن ضمن ذلك الموقف من دولة المستوطنين التي يعتقد الكثير من الإسرائيليين إنها قائمة وتتمول من حساباتهم الضرائبية، وهو ما يخلق راهنًا مواقف حادة منهم قد تستحيل في حالة المواجهة مع المقاومة الفلسطينية إن صبت جهدها المقاوم داخل الضفة الغربية، إلى فعل مقبول أو مسكوت عنه ما دام يواجه المستوطنين الذين هم قلق للعلمانية الإسرائيلية. في المقابل سيدفع الفعل المقاوم ومواجهة جيش المستوطنين الى حسم البعد الأخلاقي-السياسي لدى مجموعات أوسلو، إمّا الوقوف الى جانب المقاومة وبالتالي خسارة الدعم الدولي والحماية الامريكية أو الوقوف الى جانب الاحتلال ولو بالصمت وبالتالي وصمها نهائيا بالخيانة. ولذلك فبقاء المقاومة في جنين قلق يوجع رأس الاحتلال ورام الله، حاضرًا ومستقبلًا، خاصة مع ما تشهده الحالة الدولية من متغيرات تشي للوهلة الأولى انها ليست لصالح المقاومة وسؤال التحرير.