إدوارد سعيد.. عاش “خارج المكان” ودفن في “المنفى”
يعد أحد أهم المثقفين في القرن العشرين من حيث عمق تأثيره وتنوع نشاطاته، ويعتبره الكثيرون واحدا من أهم عشرة مفكرين تأثيرا في القرن العشرين.
ترك وراءه إرثا فكريا وإنسانيا ثريا، وسيرة ذاتية أكاديمية خصبة ومورقة على مدى السنين.
أحد المثقفين الفلسطينيين والعرب الذي تجاوز حدود المنطقة العربية إلى العالمية، وبحكم وزنه الثقافي وقيمته الفكرية كان أكثر صوت فعال في الدفاع عن فلسطين.
ولد إدوارد سعيد عام 1935 في القدس، لأب بروتستانتي خدم في الحرب العالمية الأولى في فرنسا ضمن القوات الأمريكية ما أهله لنيل الجنسية الأمريكية، والذي انتقل إلى القاهرة ليؤسس شركة أدوات مكتبية وقرطاسية، أما والدته فمن مواليد الناصرة شمال فلسطين.
عاش إدوارد حتى عمر الـ12 عاما متنقلا بين القدس والقاهرة والتحق بالمدرسة الإنجيلية ومدرسة المطران في القدس عام 1947، ثم انتقلت العائلة إلى الولايات المتحدة . كان إرساله لأمريكا بهدف إقامته فيها للحصول على الجنسية، ومتابعة دراسته.
وكان الخيار الأول للعائلة دراسة الطب لكنه غير رأيه وتوجه نحو دراسة الأدب في جامعة “برنستون” التي تخرج منها عام 1957، ثم حصل على ماجستير الآداب عام 1960، ثم على الدكتوراه في النقد الأدبي والأدب المقارن عام 1963 من جامعة “هارفارد” برسالة عن الروائي جوزيف كونراد وروايته “قلب الظلام”.
انضم سعيد عام 1963 إلى جامعة “كولومبيا” وبقي فيها حتى وفاته. كما أنه عمل أستاذا زائرا ومحاضرا في أكثر من مئة جامعة أمريكية، وحصل عام 1992 على لقب أستاذ جامعي في جامعة “كولومبيا” وهي أعلى درجة علمية أكاديمية.
عمل رئيسا لـ”جمعية اللغة الحديثة”، ومحررا في فصلية “دراسات عربية”، وكان عضوا في “الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم”، وعضوا في “نادي القلم الدولي” و”الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب” و”الجمعية الملكية للأدب” و”الجمعية الأمريكية للفلسفة”.
كان إدوارد سعيد من الشخصيات المؤثرة في النقد الحضاري والأدب. وقد نال شهرة واسعة خصوصا بكتابه “الاستشراق” الصادر عام 1978، وفيه قدم أفكارا واسعة التأثير عن دراسات الاستشراق الغربية.
وصف سعيد “الاستشراق” بأنه مصطلح غير دقيق، واعتبره “تحيزا مستمرا وماكرا من دول مركز أوروبا تجاه الشعوب العربية الإسلامية”.
واعتبر أن “الصور الرومانسية الكلاسيكية الشائعة في الكتابات الأوروبية تجاه آسيا والشرق الأوسط ليست إلا تسويغا للطموحات الاستعمارية الإمبريالية للدول الأوروبية، ولاحقا الولايات المتحدة”.
كما أنه انتقد النخب العربية التي حاولت استيعاب واستبطان وتمثّل الأفكار الاستشراقية التي اعتبرها “أسلوبا سلطويا في التعامل مع الشرق من أجل الهيمنة عليه”.
ويرى سعيد أن معظم الدراسات الأوروبية عن الحضارة الإسلامية “استعانت بأدوات الهيمنة الإمبريالية وطرقها”.
وألف سعيد أكثر من عشرين كتابا، فاتحة أعماله كانت كتاب “جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية” عام 1966، ثم “بدايات: القصد والمنهج” عام 1974 .
كما أنه نشر العديد من الأعمال التي تخص القضية الفلسطينية مثل كتاب “مسألة فلسطين” عام 1978 و”قضية فلسطين” عام 1979.
ومن بين كتبه النقدية “العالم والنص والناقد” عام 1983، وفي عام 1994 نشر “تمثلات المثقف”. ثم جاء كتاب “تغطية الإسلام: كيف تحدد وسائل الإعلام والخبراء الطريقة التي نرى فيها العالم” عام 1980، و”الثقافة والإمبريالية” الذي يعتبر تكملة لكتابه “الاستشراق”.
في سياق انتقاده اتفاقية أوسلو ألف ثلاثة كتب: “غزة-أريحا: سلام أمريكي” و”أوسلو: سلام بلا أرض” عام 1995 و”نهاية عملية السلام” عام 2000.
وترجمت كتبه إلى أكثر من عشرين لغة. وأتقن سعيد الإنكليزية والعربية والفرنسية، وكان ينشر بشكل مستمر في عدة دوريات وصحف عربية وأمريكية وفرنسية وبريطانية.
وبالإضافة إلى الكتابة، فإنه امتلك معرفة بالموسيقى وتاريخها، وألف فيها كتابين “متتاليات موسيقية”، و”عن النموذج الأخير.. الموسيقى والأدب ضد التيار”، فضلا عن ممارسته العزف على البيانو.
وقام مع صديقه دانييل بارينبويم الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية والإسبانية والأرجنتينية بتأسيس أوركسترا “الديوان الغربي الشرقي” عام 1999، كما أنه شارك بارينبويم في نشر كتاب عن محادثاتهما الموسيقية المبكرة بعنوان “المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقى والمجتمع”.
في الفترة الأولى من حياة سعيد بأمريكا كان شبه منعزل عن العالم العربي لكن حرب حزيران/ يونيو عام 1967 أعادته إلى المنطقة العربية من جديد، وكأنه اكتشف فلسطين فأصبح يكتب عن فلسطين منتقدا السياسات الأمريكية الداعمة للاحتلال.
وكان سعيد عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، وصوت في عام 1988 في جلسة المجلس التي عقدت في الجزائر لصالح إقامة دولة فلسطين، ووضع للمؤتمر حينها بالاشتراك مع الشاعر محمود درويش وثيقة “إعلان دولة فلسطين”، لكنه استقال منه بسبب معارضته لمواقف الراحل ياسر عرفات، كما أنه رفض “اتفاقيات أوسلو” التي كان يعتقد أنها صفقة خاسرة للفلسطينيين.
ورأى أن “أوسلو” لن تقود إلى إقامة دولة فلسطينية، كما أن هذه الخطة نفسها سبق أن رفضت عام 1970 من طرف عرفات عندما عرضها إدوارد سعيد بنفسه عليه نيابةً عن الحكومة الأمريكية. وعلق على ذلك بأن عرفات فرط في حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضي عام 1948 وتجاهل تنامي الاستيطان.
وبلغت العلاقة بينه وبين السلطة الفلسطينية ذروة توترها عام 1995 عندما حظرت السلطة الفلسطينية بيع كتبه في أراضيها.
ولم تعد الأمور إلى مجاريها حتى عام 2000 عندما أثنى على رفض عرفات التوقيع على أي اتفاقية في قمة “كامب ديفيد” عام 2000.
وكان سعيد من المفندين دوما للادعاءات الصهيونية، وتميزت العقود الثلاثة الأخيرة من حياته بكتاباته عن الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، ودفاعه عن ضرورة قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.
وألف سيرة ذاتية صدرت عام 2000 بعنوان “خارج المكان”.
وقد أدت مواقف سعيد إلى تعرض مكتبه لعمليات تخريب، وتهديدات بالقتل له ولأفراد عائلته، وقد أطلق عليه الإعلام المنحاز للاحتلال لقب “بروفيسور الإرهاب” و”شكك في فلسطينيته” واتهمه بـ”معاداة السامية”.
التقطت عام 2000 صورة له مع ابنه وهو يرمي حجرا عبر بوابة “فاطمة” الحدودية في جنوب لبنان باتجاه فلسطين المحتلة، وما لبث النقد أن وجه له بصفته “متعاطفا مع الإرهاب”. وقد علق على الأمر بوصفه بـ”رمزية الفرح” لانتهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
وقام سعيد بعمل فيلم وثائقي لتلفزيون “بي بي سي” بعنوان “في البحث عن فلسطين”، ولم يعرض في القنوات الأمريكية. علق سعيد على ذلك بتشبيه وضعه بوضع المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، بوصفه “عالما لغويا كبيرا ويلقى التكريم على ذلك، لكنه في الوقت نفسه مذموم ويلقى التهم بمعاداة السامية وعبادة هتلر”.
ساهم عام 2003 مع حيدر عبد الشافي وإبراهيم الدقاق ومصطفى البرغوثي في تأسيس “المبادرة الوطنية الفلسطينية” والتي سعت إلى تأسيس قوى ثالثة في السياسة الفلسطينية منافسة لحركتي “فتح” و”حماس”.
كما أنه انتقد التقارير المنحازة للصحافة الغربية وخصوصا وسائل الإعلام حول مزاعم المؤامرات الإسلامية لتفجير المباني، وتسميم المياه وتخريب الطائرات التجارية. وعارض السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط والعديد من الأماكن الأخرى، منتقدا مشاركة الولايات المتحدة في كوسوفو وقصف العراق، وقد كان الدعم الأمريكي للاحتلال موضع نقد متواصل من قبله.
وعلى الرغم من تزايد معاناته بسبب سرطان “اللوكيميا” فإنه أمضى العديد من أشهره الأخيرة في نقد ومهاجمة غزو العراق عام 2003.
مقاومته للمرض لنحو عشرة أعوام لم تمنعه من الاستسلام له فتوفي عام 2003 في نيويورك عن عمر ناهز الـ67 عاما، وقد أوصى أن ينثر رماده في لبنان بحضور شقيقته المؤرخة روزماري زحلان، وزوجته وابنه وابنته نجلاء الممثلة والكاتبة المسرحية.
أمضى إدوارد سعيد حياته في الغربة، وقد عتب فيما بعد على أهله أشد العتب لأنهم لم يسمحوا له بالانخراط في مجتمعه الذي نشأ فيه، وبالتالي لم يتسن له معرفته معرفة وثيقة، فأطلق على غربته “النفي”.